الرواية هي
ديوان العرب الآن، هي التي تسجل المآثر والمسالب، هي التي ترصد الواقع على
صفحاتها، وتخرج من رحم البيئة التي تولد فيها، فهي ابنة الواقع و إليه تعود، وإذا
نظرنا إلى الرواية العربية منذ بدايتها نجد أنها "عاشت هموم ومشاكل شعوبها،
حيث عالجت قضايا الاستعمار الأجنبي أمام عجز البرجوازية الصغيرة عن مسايرة الرفض،
والبحث عن التحرر الذي تطمح إليه الفئات المتضررة. فالرواية، على عكس الأجناس
الأدبية الأخرى، قادرة على إعطاء التفسير للخالد والعابر في الحياة وبطرق مؤثرة
خصبة، كما أنها تعكس جوانب من الوعي الاجتماعي في لحظاته الحية،اعتمادا على ما
تملكه من مقومات تجعله قادرا على التعبير عن الواقع العربي في تقلباته واضطراباته.
وبها ومن خلالها تستطيع الرواية أن تستقي مواضيعها الكبرى وتقديم نماذج مصغرة عن
حياة الإنسان العربي في تقلباتها وصراعاتها واختلاف أجيالها،فأي إنسان ينتهي من
قراءة رواية معينة،سيجد نفسه، حتما، يطرح سؤالا ساذجا ولكنه ذو مغزى، وهو: هل ثمة
شخصيات في محيطه الاجتماعي تشبه تلك التي قرأ عنها في هذه الرواية أو تلك؟"
نعم هذه هي النتيجة الحقيقية التي يتوصل إليها المتلقي عند قراءة أي عمل ابداعي
خصوصًا إذا كان كاتبه من الذين يحفرون في جذور القضايا وينطلقون من سياقتها
المختلفة، والرواية بهذه الثيمات هي الأجدار والأقدر على تقديم تلك المفاهيم
الكبرى للانطولوجي .
يمثل نجيب محفوظ قمة الهرم في الجيل الثاني من كتاب الرواية العربية، وقد قدم
للمكتبة العربية أعمالا متنوعة في فترات زمنية مختلفة، بداية من الفترة الملكية،
وما تلاها من فترات، فهو من الكتاب الذين حفروا في أعماق الشخصية المصرية بصورة
فريدة، وقد تمثلت هذه الحفريات في رواياته بصورة مختلفة، وبمراحل متنوعة، فأننا
نجد إنه " يقف على رأس الجيل الثاني الذي بدأ ظهوره في الأربعينيات ، و هو
يحتل مكانا فريداً في تاريخ الرواية العربية ، حيث [أدى] دورا كبيرا في تطويرها
.فقد كتب نجيب محفوظ روايات كثيرة إضافة على القصص القصيرة و سيناريوهات الأفلام ن
وهو ما جعله يتبوأ الصدارة في الإنتاج الروائي في الأدب العربي الحديث، و ينال
بجدارة جائزة نوبل للآداب سنة 1988 م ، و الواقع أنّ نجيب محفوظ كان يعبر من خلال
هذه الأعمال القصصية عن مراحل تطوره الفكري الذي كان في حالة من عدم اليقين العلمي
.
وللوقف عل مراحل نجيب محفوظ الابداعية يمكننا تقسيمها كالآتي:
المرحلة التاريخية ، وتمثل روايات (رودبيس – عبث الأقدار – كفاح شعب مصر) وتسمى
المرحلة الفرعونية أو التاريخية أو التاريخية الرومانسية الي تستلهم أمجاد الفترة
الفرعونية من أجل التغلب على المستعمر باستدعاء بطولات القدماء خصوصًا كفاح شعب
مصر ضد المستعمر الانجليزي .
في هذه المرحلة " انحاز "نجيب محفوظ" للتاريخ الفرعونى تمجيدا
للشخصية المصرية، واتخذ من الماضى المجيد سبيلا لبناء وطن وحياة أفضل، واعتمد فى
رواياته الثلاث على المصادر الأجنبية التاريخية والأدبية ، وجاءت رواياته فى بناء
-فنى يعبر عن رؤيته الفكرية، ونوجز ذلك من خلال المحاور التالية:
أولا – قدمت الفرعونيات موضوعات معاصرة من خلال فضاء تاريخى فرعونى،وكانت القضيةالرئيسة
هى الحرية والاستقلال، من خلال الثورة ضد الملكية والاحتلال، والانتماء للوطنية المصرية،
ويتضح ذلك
فيما يلى :
(أ) آثر الكاتب ثلاث فترات من التاريخ الفرعونى هى: فترة الق وة المتمثلة فى عصر
"خوفو" ، ثم فترة الضعف المتمثلة فى عصر "مرنرع الثانى"، ثم
فترة الاحتلال والثورة المتمثلة فى عصر " أحمس"، وقد حرص الكاتب على
الترتيب الزمنى تاريخياً، ثم التشابه والإسقاط على الواقع المعاصر؛ حيث بدأت أسرة
محمد على بالقوة ثم دب الضعف الذى أدى إلى الاحتلال البريطانى، ومن ثم فإن الكاتب
يحث المصريين على استكمال المرحلة الثالثة وهى الثورة المسلحة ضد الملكية
والاحتلال .
(ب) يرى الكاتب أن الحرية والاستقلال لن يتحققا إلا على يد أبناء الطبقة المتوسطة
من المصريين الذين يجيدون فنون القتال والحرب ٠العسكريين)، ، ويعد ذلك نبوءة تنبأ
بها، تحققت بثورة ١٩٥٢ التى قادها الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر.
(ج) تشى الفرعونيات بتمجيد الشخصية المصرية، حيث يرى بناء الأهرام عمل علمى وفنى
وثقافى، لا مكان فيه للعبودية والاضطهاد كما يزعم ال ا زعمون ، كما تؤكد على أن
المصريين هم الأولى والأجدر بحكم أنفسهم، لما يتمتعون به من وطنية وٕاخلاص
وقوة "
المرحلة الواقعية: وهي بنت الواقع ومنه خرجت وإليه تعود، وهي المرحلة الفارقة في
تاريخ نجيب محفوظ التي بدأها برواية ( القاهرة الجديدة- وبين الأطلال- وبداية
ونهاية- وزقاق المدق- ) وغيرها الرويات التي تجسد الواقع المصري الاجتماعي من خلال
الأسرة المصرية،كما تبرز صراع الطبقات في المجتمع .
مرحلة الرمزية: هي الغموض والهروب من المواجهة أو المواجهة الغير مباشرة تحت تكأة
الرمز والصورة المخادعة، ظهر ذلك جليًا في أولاد حارتنا وغيرها من الروايات ، وبعض
النقاد يسميها المرحلة النفسية أو الدينية أو غير ذلك . بقي نقطة لابد من الإشارة
إليها في أعمال الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وهي هل ابداع نجيب محفوظ مطلق أم تقليدي
– تمصير للاجنبي -؟.
فالروايات الفرعونية في تماس كبير مع كتابات (أناتول فرانس) وكتاب ( جيمس بيكي)
وتأثره ب(والتر سكوت) من حيث الطريقة والمنهج، وهذا ما حدى ببعض النقاد اعتبار
الأستاذذ الكبير مجرد ناقل للرواية الغربية وقام بتمصيرها فقط، وهذا لا يطمس
المكانة الكبيرة والمتفردة في الكتابة الروائية والمهارة في توظيف اللغة والسرد
الحواري وغيرها من التقنيات التي تتمتع بها كتابات نجيب محفوظ؛ ولكن هي نقطة يجب
الإشارة إليها.