الأمة الإسلامية وآليات مواجهة الكوارث المختلفة

0

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن قضية الكوارث سواء أكانت طبيعية من صنع الله كالزلازل والبراكين أم كانت من صنع الإنسان كالحروب ، والإفساد في الأرض، وهي جميعها ضمن إرادة الله (عز وجل) ولا تخرج عن حُكمه وإرادته سبحانه وتعالى .

وإذا أردنا الوقوف على حقيقة الكوارث بمختلف أنواعها؛ فإن ذلك يحتاج إلى تحديد المصطلحات والمفاهيم التي تؤسَّس عليها تلك القضايا ومن ذلك قضية الابتلاء، وهل هي تُعَدُّ اختبارًا وامتحانًا من الله أم أنها عقوبة وزجرًا للعباد؟ وحتى ينهض هذا التوصيف على قواعدَ علميَّةٍ فإنَّنا نوضح المقصود بالابتلاء لغة واصطلاحا، ومتى يكون اختبارًا من الله ورفعة، ومتى يكون عقوبة وزجرًا للبشر ، كالآتي :

قال ابن فارس :"  الباء واللام والواو والياء، أصلان: أحدهما إخلاق الشيء، والثاني نوع من الاختبار، ويُحمل عليه الإخبار أيضا"([1])

وفي السياق ذاته يقول ابن منظور :" بلوت الرجل بلوا وبلاء وابتليته: اختبرته، وبلاه يبلوه بلوا إذا جربه واختبره"([2])

فقد حدد ابن منظور من خلال هذا النص أن الابتلاء يُقصد به الاختبار، واستدل لذلك بقوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث أم سلمة (رضي الله عنها): " إنَّ من أصحابي من لا يراني بعد أن فارقني، فقال لها عمر: بالله، أمِنْهم أنا؟ قالت: لا ولن أبلي أحدا بعدك "(([3])) ، أي لا أخبر بعدك أحدًا([4])

ويأتي بمعنى الامتحان، كما في قوله :" ابتلاه الله امتحنه.

 والبلاء يكون في الخير والشر يقال: ابتليته بلاء حسنا وبلاء سيئا، والله تعالى يبلي العبد بلاء حسنا ويبليه بلاء سيئا...  ومنه قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾  "([5])

إنَّ التأسيس اللُّغوي للابتلاء ينهض على معنى الاختبار والامتحان، وهذا ميدان المسابقة في الصبر والشكر لدى المسلم.

·      الابتلاء اصطلاحًا:

الابتلاء هو الامتحان والاختبار، وبه يكون الثواب والعقاب، ولذلك فإنَّ البلاء  يكون في الخير والشر، والله تعالى يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا، وهو يرجع إلى هذا ؛ لأن بذلك يختبره في صبره وشكره"([6])

·      منزلة الابتلاء من الدِّين:

إنَّ البلاء والابتلاء كليهما امتحان واختبار، ويكونان بالسراء والضراء، ويقعان شرعا وقدرا، فالتكاليف الشرعية فِعلًا كانت أو تركاً، وكذلك مقادير الخير والشر، كل ذلك مما يُمتحن به العبد، وإن كان استعمال الابتلاء في الشر والضر والأمور الشاقة أغلب"([7])،  وذلك كما جاء في قوله تعالى : ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ ([8])

وهذا البلاء - سواءٌ على مستوى الفرد أو الأمة - يكون رفعة ومكانة عند الله (عزَّ وجل)، وما تعيشه الأمة من الكوارث بمختلف أنواعها  قد تكون من قبيل الابتلاء والتمحيص للمسلمين كما قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ ([9]) ، وقوله تعالى : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ ([10])

والمسلمون مطالبون بالصبر على ذلك، والتمعُّن في حكمة الله (عز وجل) وقدرته على كل شيء، وهذا عين التسليم والانقياد لله (عز وجل).

وقد عقد الإمام ابن القيم (رحمه الله) مقارنة بديعة في موقف الناس من الابتلاء فقال:

تمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمِحن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظَلَمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعوَّلهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثِقَل البلاء؛ فإنهم كلما شاهدوا العِوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:  ﴿وَلا تَهِنُوا فِى ابْتِغاءِ القَوْمِ إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإٍنّهم يَأْلمونَ كَما تَأْلمونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مالا يَرْجُونَ﴾ ([11]) فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزُّلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلَى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك.

الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذُلٌّ وكسْر وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو أنقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة؛ ومعلوم أنَّ وجودَ هذا خيرٌ للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له".


فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب.

 يُبتلى المرء على قدْر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة"([12])


  أسباب الكوارث الطبيعية:

الكوارث  الواقعة في الكون هي  في البَدء والانتهاء  وَفق حكمة الله (عز وجل)، وهو سبحانه المتحكم في الكون ، سواءٌ كانت هذه الكوارث محببة إلينا، أو تُسبب لنا الألم والمعاناة .

وإذا كان الأمر كذلك فإننا يمكننا تقسيم الكوارث إلى قسمين رئيسين :

القسم الأول  : كوارث  يوقعها الله بالكون والعباد، وهي اختبار وامتحان  للمسلمين، وعقوبة وبلاء على المشركين، وهذه منها الزلازل والبراكين والأمراض وغيرها ، وهذه الكوارث ناتجة عن أسباب متعددة ، منها:

-     الإعراض  عن دين الله (عز وجل)، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾([13])

فالإعراض عن الصواب والتزام الخطأ في القضايا كافةً يستلزم العقوبة من الله (عز وجل)، هذا الإعراض يشمل مساحة بدايتها الذنوب والمعاصي، وينتهي بالكفر ومحادة الله ورسوله .

قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ([14])، فهذه الكوارث عقوبة للأمم والمجتمعات الكافرة للإعراض والغَيّ والإفساد في الأرض ، كما قال تعالى:) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ  فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ﴾(([15]))

 

-     الإفساد في الأرض، قال تعالى : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾([16])

الإفساد في الأرض  من الأسباب الجالبة لعقوبة الله (عز وجل) عاجلاً أم أجلا،  قال : ﴿  إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ﴾([17]).

إن الإفساد في الأرض يمتد إلى القضايا الحسية كافة، كالشهوات التي تستهدف الأمة في عالَمٍ أصبح موعولم في كل شيء، وأصبحت وسائل الحصول على أي شيء متاحة وميسورة، أو كالشبهات التي تستهدف عقول أبناءه بُغية زعزعة الثوابت  والأصول التي تنمو عليها فروعه وأغصانه.

 

 

 

القسم الثاني : كوارث للبشر دخل فيها 

هذا القسم هو متعلق بالدور البشري في إفساد الكون أو إفساد المجتمعات والأمم، بغية السيطرة أو الاستحواذ أو فرض الهيمنة أو غير ذلك من الأسباب، وهذه سُنَّة كونية قدرها الله على البشر، وهي ضمن إرادة الله في النهاية، فالأمراض المعاصرة والكوارث وغيرها من سبل الإفساد في الكون  للبشر دور فيها؛ فلا يمكن إغفال المكر والخداع الذى ذكره الله في الكون، قال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ([18])

فالإفساد في الأرض موجود منذ بداية البشرية، ويتطور ويتخذ آليات جديدة، والله ( عز وجل) يرسل الآيات والعقوبات لتنوب على المصلحين في أوقات معينة، وتذكِّر الناس بربهم سبحانه وتعالى.

والكوراث التي تصيب الأمة هي رحمة لها ورفعة من الله (عز وجل ) لعباده المؤمنين، قال رسو ل الله ) " :(أُمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل" ([19])

وقد ادَّعى اليهود والنصارى عدم عذاب الله لهم في الآخرة، فكانت الإجابة حاسمة في شأنهم ،  قال تعالى : ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ﴾([20])

قال صاحب التحرير والتنوير:" وقد علَّم اللهُ رسولَه أن يبطل قولهم بنقضين: أولهما من الشريعة، وهو قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم يعني: أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه، وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه.

 روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد: أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم، وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم؛ لأنَّ ذلك لا يعترفون به، فلا يصلح للرد به، إذ يصير الرد مصادرة، بل المقصود هو الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء أكان عذاب الآخرة، أم كان عذاب الدنيا.

فأمَّا اليهود، فكتُبُهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ  ([21])،  وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذِكرا لعذاب الآخرة، إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلِّصًا، وشافعًا، وعرض نفسه للصَلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى، فحصل الرد عليهم باعتقادهم به،" ([22])

وهكذا فإن رحمة الله  تقع  لهذه الأمة وَفق الحديث السابق، ويكون الأجر والثواب وفق قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾([23]) 

قال صاحب مرقاة المصابيح: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم-: " أمتي هذه " أي: أمة الإجابة الموجودة ذهنا، المعهودة معنى، كأنها المذكورة حسا (أمةٌ مرحومة) أي: رحمة زائدة على سائر الأمم؛ لكون نبيهم رحمة للعالمين، بل مسمى بنبي الرحمة، وهم خير أمة (ليس عليها عذاب) أي: شديد (في الآخرة) بل غالب عذابهم أنهم مَجزيون بأعمالهم في الدنيا بالمِحَن، والأمراض، وأنواع البلايا، كما حقق في قوله تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾([24]). على ما تقدم، والله تعالى أعلم، ويؤيد قوله: (عذابها في الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل) أي: بغير حق، وقيل: الحديث خاص بجماعة لم تأت كبيرة، ويمكن أن تكون الإشارة إلى جماعة خاصة من الأمة، وهم المشاهدون من الصحابة، أو المشيئة مقدرة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ﴾ ([25])

وقال المظهر: هذا حديث مُشْكَل؛ لأن مفهومه ألّا يعذبَ أحد من أمته - صلى الله تعالى عليه وسلم - سواء فيه من ارتكب الكبائر وغيره، فقد وردت الأحاديث بتعذيب مرتكب الكبيرة، اللهم إلا أن يؤول المراد بالأمة هنا من اقتدى به - صلى الله تعالى عليه وسلم - كما ينبغي، ويمتثل بما أمر الله، وينتهي عما نهاه" ([26])

إن الكوراث والمصائب التي تصيب البشر هي في الأساس اختبار وابتلاء  من الله ، وشأنها التسليم والإذعان لأوامر الله (عزوجل)، كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم):"  عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ، كَانَ خَيْرًا» ([27])

فهذا هو الموقف الشرعي من القضايا التي تنزل به كالزلازل والبراكين وغيرها من الأمراض، كالطاعون الذي وقع في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ومع ذلك فنحن مأمورون بالتعامل مع ذلك؛ فالأمم لا بد أن تتخذ من التدابير  والاحترازات التي تستلزم حفظ الأنفس والأرواح، وهذا مقصد من مقاصد الشرع الكريم .

والأمثلة على ذلك كثيرة، فالأمم العاملة لا تقف  من الأحداث موقف المتواكل بحجة التسليم ، وأنه لا دخل لها في ذلك، فهذا  مخالف للشرع، فإذا كانت هذه الأمور من صنع الله (عز وجل) لتأكيد هَيمنته على الكون، فإنه سبحانه لم يمنعنا من التداوي أو مواجهة الأعاصير أو الزلازل والبراكين، على الأقل للحد من المخاطر، وتقليل الخسائر. ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ﴾([28])

الأمم التي لا تعمل أو تنهض وفق حضارتها وتعِد العدة لمواجهة كافة المستجدات، هي أمة محكوم عليها بالتخلف  عن ركب الحضارة، والسقوط في متاهات الحياة، والتعثر عن مواجهة أي كارثة تحل بها، فلا يمكن لأمة ليس لديها أدنى رؤية  عن المستقبل والمستجدات العلمية والبحثية في كافة المجالات وفق المستقبليات والاستشراف، أن تصمد أمام  التحديات التي تزداد يومًا بعد يوم؛ دورها سيكون  دائمًا  محصورًا في انتظارها من يخلصها من ذلك، دورها في نطاق المفعول به لا الفاعل، دورها في نطاق المستهلك لا المنتح.

هذا الكلام لا يتوقف على قضية من القضايا، إنما يمتد إلى الحقول المعرفية والإبداعية كافة.

والشريعة واضحة في هذا الصدد ونصوصها في ذلك كثيرة ومتعددة، كما قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ([29]) ، وغير ذلك من النصوص التي تُحثُّ الأمة على النهوض  العِلمي والمعرفي .

بالأمس القريب وقعت جائحة كورونا، وكان العالم يتعامل معها وَفق رؤية علمية، ونحن كنا ننتظر من يمُنُّ علينا بالأمصال مقابل أي شيء، وليس لَدينا أدنى معلومات للتعامل إلَّا ما يلقيه علينا الآخرون .

إنَّ آليات التعامل مع الزلازل والبراكين وغيرها من الكوارث لا يكون عند وقوعها، بل يسبق ذلك بالاستعداد والتوقع لها وفق متخصصين في المجالات كافة، سواء ما يتعلق بالكوارث الطبيعية أم ما يتعلق بالإنسانية كالمجاعات والأمراض وغيرها.

أما إذا كانت الكوارث من صنع البشر، وهذا أمر مطرد على مدار التاريخ، والوقائع موجودة في  مصادرها وفق ما يتواءم مع كل عصر، وما بلغه من طفرات عِلمية.

فالإنسان لا يتوقف على المكر بالإنسان الآخر، والشواهد على ذلك موجودة في القرآن الكريم ، قال تعالى :  ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ﴾ ([30])

وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) ﴾ [ إبراهيم :46].

إنَّ القضية الآن ليست إثبات فساد الإنسان في الكون من عدمه، وقد حُسِمَت منذ نزول الوحي بقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) ﴾([31])

القضية الآن هي: ما دَور الأمة في التصدى لهؤلاء؟ أو بمعنى أدَق: ما دَور الأمة الحضاري بالنسبة للأمم الأخرى؟

أمتنا تحتاج إلى نهضة جديدة في المجالات المعرفية كافةً؛ حتى تستطيع مواكبة الحضارة والعالم من حولها.

 دور الأمة الآن هو كيف تنهض في ظل العوامل والتحديات من حولها؟

كذلك فإنها تحتاج إلى الإجابة على تساؤل: كيف النهوض في ظل التحديات والمعوقات الموجودة؟



([1])  ابن فارس: مقاييس اللغة، تحقيق، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر،  1399هـ - 1979م. ،ج1/ 292.

 ([2])  ابن منظور : لسان العرب، د ار صادر – بيروت، ط3- 1414 ه ،ج14/ 83.

([3])  أحمد ، المسند، حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، تحقيق ،  شعيب الأرنؤوط ،  ط الرسالة (44/ 93)، قال المحقق، إسناده صحيح.

 ([4])  ابن منظور : لسان العرب، د ار صادر – بيروت، ط3- 1414 ه ،ج14/ 83.

 ([5])  ابن منظور : لسان العرب ،ج14/ 83.

([6])  ابن فارس: مقاييس اللغة، تحقيق، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر،  1399هـ - 1979م. ،ج1/ 292.

([7])  أبو فيصل البدراني: فقه الابتلاء وأقدار الله المؤلمة (ص: 16)

([8])  الملك/1- 2.

([9])  الأسراء/ 59

[10]  محمد/36

([11]  ) النساء/ ١٠٤

([12])  ابن القيم : إغااثة اللهفان من مصائد الشيطان، تحقيق، محمد حامد الفقي دار المعرفة ، بيروت ط2 ، 1395 – 1975، ج2/187.

([13])  سبأ/ 15-16

([14])  النساء/79

(([15]))  الذاريات/ 44

([16])  الروم/ 41

([17])  السجدة /22

([18]) إبراهيم / 46

(([19]))  سنن أبي داود، كتاب الفتن ، باب ما يُرْجى في القتل،   ت الأرنؤوط ،ج6/ 334، قال المحقق، إسناده ضعيف.

([20])   المائدة /18

([21])  البقرة/ 80

(([22]))  الطاهر بن عاشور : التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر - تونس 1984 هـ، (6/ 156)

([23])  سُورَة التغابن / 11.

([24])  النساء/ 123.

([25])  النساء/ 48.

 ([26])  علي بن (سلطان) الهروي القاري : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، دار الفكر، بيروت – لبنان ، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2002م (8/ 3372)

 ([27])مسلم ، كتاب التوبة، باب المؤمن أمره كله خير، ج4/ 2295.

([28])  الأنبياء/ 35.

([29])  التوبة / 156

([30])   الأنفال/ 30

([31])    الرُّوم /41.

 

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)