عوامل النشأة والتكوين " قراءة في عوامل خارج النص"

0

 


إن الكتابة عن الآليات التي تُسهم في تكوين الإنسان معرفيَّا وعلميَّا تُعَدُّ من قضايا المنهج التي تؤسس لدراسة أي شخصية، وتكون وفق أنماط محددة، فهذه العوامل تكون بمثابة المهاد التأسيسي الذي يمهِّد الطريق أمام الناقد أو المبدع في قراءة الشخصية من خلال السياقات التي أحاطت بها أو كان لها دور في تشكيل هذه الشخصية.

وهذه الآليات منها ما يتعلق بالبيئة الصغيرة للشخص كالأُسرة والقرية الصغيرة التي ينشأ فيها وينهل من عادتها وتقاليدها، ومنها ما يتعلق بالمجتمع الكبير الذي يضم هذا الإنسان، ويعيش في ظلال سياقاته الاجتماعية والثقافية، والسياسية، والأوسع من ذلك هو فضاء الأمة، والعالم من حوله؛ كل هذا يمثل لنا عتبةً للبداية في دراسة أي منجز معرفي لأي إنسان، وفي المجالات كافة؛ ولذلك كانت كتابات القدماء تتعرض لهذه القضية من خلال ترجمات الأشخاص بذكر محطات معينة من حياتهم وبيئاتهم التي نشأوا   فيها، والسياق المسيطر في تلك الفترة سواءٌ أكان اجتماعيا أم سياسيا أم ثقافيا، فكل هذه العوامل داخلة بصورة أو بأخرى في كتابات هؤلاء الأشخاص.

وفي العصر الحديث أُفرد لهذا النوع من الدراسات مؤلَّفات متعددة تُسلط الضوء على تلك النقاط باعتبارها كاشفة -بصورة مباشرة- عن عوامل تكوين الأشخاص، وحاضرة بصورة مباشرة في كتاباتهم.

و في هذا البحث الصغير أقدم رؤية حول هذا الأمر من خلال نموذج تطبيقي يوضح تلك الآليات التي تكون مِفتاحا لقراءة أي شخصية أو منجز معرفي، كما لا يمكن إغفالها، وعدم الوقوف عليها وتجاوزها إلى غيرها؛ بل إن تتبع مثل هذه القضايا يفتح الباب واسعا أمام التحليل والنقد وقراءة النصوص قراءة عميقة بعد الاطلاع على سياقات مختلفة وعوامل كانت سببًا في إثقال الشخصية معرفيًّا وإبداعيًّا.

علم القيمة وعلم الثمن

في الوقت الحاليِّ والوقت القادم لا يمكن أن تبقى المعايير كما هي في ظل التحول الرهيب في كل شيء، ومن كل شيء، والتحلل من كافة القيود، من الكتابة إلى الصورة، ومن الصورة إلى الرقمنة، ومن الرقمنة إلى ما لا نعلمه .

هذا وبالإضافة إلى إمكانية فعل أي شيء، وشراء أي شيء؛  فالآن أصبحت المادة هي القيمة المقوِّمة لكل شيء، وهذه هي الحقيقة التي نسير إليها بخطًى سريعةٍ وثابتة، لا يمكن في النهاية أن نخطئ الطريق طالما اختارنا أن تكون المادة هي القيمة المقوِّمة لكل شيء .

فالعلم يباع ويشترى، و الإنسان –أيضًا- يباع ويشترى، وهكذا بقية الحياة، هي مجرد سلعة تباع وتشترى، لا يمكن لك أن تحقق مشروعا إذا غفلت عن هذه الحقيقة التي تصرخ  فيك صباحَ مساءَ.

العالم من حولك من أقصاه إلى أقصاه يتعامل وفق هذه الرؤية، وأيُّ إهمال لها يعني السقوط.

نحن في سياق الانتقال من القيمة إلى الثمنيَّة أو السعر، وكل ما له سعر يمكن شراؤه، والأشد من ذلك وجود البدائل، فكل من له بديل فلا سعر له .

الانتقال من حالة القيم إلى حالة البيع والشراء وفق معايير الشرائيَّة فقط، سيكون تحول مريع في كل شيء  حتى في الإنسان نفسه!

الحديث عن السرديات الأخلاقية وعالَم القيم والمبادىء أصبح من ركام الماضي ، وكسدَتْ سوقُه في الأوساط كافةً؛ فالقائم هو الثمنيَّة التي يمكن من خلالها فعلُ أي شيء ، ومع أي شيء ،وفي أي وقت وفي كل وقت .

تحضرني قصة قديمة تخلص تلك الفكرة بصورة واقعية حدثت مع شاعر النيل حافظ إبراهيم: فقد كان يجلس على القهوة لايجد من يدفع له ثمن كوبٍ من الشاي، وكانت أشعاره تدور حول معاني الفقد وضيق اليد، وأن الحياة بخَسته، وهكذا ، حتى حصل على وظيفة وأصبح ميسور الحال ، فقد تغيَّرت رؤيته للحياة بالكليَّة، وظهر ذلك على قصائده وأشعاره .

هذا الملمح يؤكد لك الحقيقة التي جُبل عليها بنو الإنسان ، وإنَّ مسألة الكتابة من أجل القيمة لم تَعد موجودة ؛ بل الآن السؤال المحوريُّ الذي يجب الإجابة عنه: ماجدوى هذا ؟ وهل يستطيع أن أُطعم اطفالي من خلاله أم لا ؟ وإلَّا فلْيذهب كما ذهبَتْ أم قَشْعَمِ.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)