: غزو مزدوج وأمة تائهة !
لم يرسل الله أنبياءه ليعلموا الناس :
كيف يحيون أرضا مواتا ؟.
أو كيف يضاعفون إنتاج أرض صالحة ؟.
أو كيف ينشئون صناعات خفيفة أو ثقيلة ؟.
أو كيف يحسنون إدارة الأعمال في أقصر وقت وأقل تكلفة ؟. أو كيف يعرفون خصائص النباتات الطبية والعقاقير المشابهة ويقيمون مؤسسات كبرى لشتى الأدوية ؟.
إن ذلك كله وأمثاله ـ وهو كثير ـ موكول إلى عقول البشر وجهودهم ؛ يتنافسون فيه كيف شاءوا ؛ ويبتدعون فيه ما أعانهم الذكاء ؛ وواتاهم الحظ ..
فإذا تخلف كسول فعلى نفسه جنى وهو وحده الملوم وإذا سبق نشيط فلنفسه بغى الخير ؛ وهو يُغبط على نجاحه وأرباحه ..
وقد أدرت بصري في ميادين عديدة ووازنت بين عمل وعمل ونتائج ونتائج ؛ ورأيت أن أصارح قومي بما لهم وما عليهم ؛ فلا معنى للإدهان والمواربة ..
رأيت مطاراً في إحدى المدن نظيفاً رائقاً ؛ وآخر مترباً كدراً ؛ فسألت : ما السبب ؟.
فقيل : هذا تتولاه شركة وطنية والآخر تتولاه شركة أجنبية ؛ فسرى الغيظ فى نفسي ؛ وقلت : لم هذا التفاوت ؟.
إن عيونهم كعيوننا وأيديهم كأيدينا ؛ فلماذا يرون ولا نرى ؛ ويعملون ولا نعمل ؟.
لعل هناك تلفاً فى الملكات النفسية ؛ أو لعل الملكات واحدة ؛ والطاقة المحركة موجودة هنا مفقودة هناك ؛ وأياً ما كان الأمر فلابد من معالجة سريعة لهذا البلاء وإلا ضاعت أمتنا ..
ورأيي أن التربية الفاسدة والثقافة المغشوشة لهما أثر عميق في هذا التبلد السائد ؛ وكل تربية تقاوم الفطرة ؛ وتشوه الأجهزة الإنسانية الأصلية فهي خصم للإسلام ؛ وكل ثقافة تحجب البصيرة وتقوم على التجهيل بالكون والحياة فهي خصم للإسلام ؛ وقد وجد في أعصار شتى من ادعى العلم بالإسلام ؛ ومع ادعائه العريض أنشأ أجيالاً منسحبة من الحياة ؛ معصوبة العينين أمام آيات الله في ملكوته معطوبة الخواص الدافعة إلى الترقي والتوسع والاكتشاف ..
ما أبعد الإسلام عن هؤلاء الناس ؛ وما أبعد هؤلاء الناس عن كتاب يقول عن خصومه :{[ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ]} ..
أقال الإسلام للعرب : ارعوا أغنامكم فوق مناجم النفط
ولا تفكروا فيما تحتها ؛ ولا تستخرجوا قطرة منها ؟ ! .
أقال الإسلام للعرب ازرعوا القطن والكتان ولا تحسنوا
إنشاء مصانع النسيج والغزل ؟.
أقال لهم : قفوا على الشواطئ وارمقوا الجواري فى البحر كالأعلام يصنعها غيركم ؛ وتعجزون أنتم إلا عن ركوبها متى يشاء ؟! .
إن الانهيار الحضاري فى الأمة الإسلامية جاء وليد تخفف عقلي اجتاح أرجاءها بعد خيانات علمية وتربوية واجتماعية وسياسية شملتها من القمة إلى القاع ؛ وجعلت الإسلام فيها أثراً بعد عين !.
وكانت العودة الساذجة إلى الإسلام تمثل أطفالاً لا يحفظون المصحف لا يفقهون منه حرفاً ؛ ويكبرون على ذلك !
ورؤساء تُباغَت بهم شعوبهم لا تدري من أين جاءوا ؟.
ولا كيف ؟.
والغريب أن ناساً من العاملين في الحقل الإسلامي هذه الأيام لا يذهبون أبعد من هذه الصورة ؛ وهنا الطامة على مستقبل الأمة ..
والذين يستقبلون الغزو الثقافي برضا أو بحماس ينظرون إليهم ثم يفتحون الباب على مصراعيه لهذا الغزو ؛ فهو في تصورهم إنقاذ من التخلف والضياع ..
ونحن ولله الحمد نكره هذا العوج وذاك الشرود ؛ وما نتعصب لخطإ تورط فيه من قبلنا ؛ وما نتجهَّم لصواب اهتدى إليه غيرنا ؛ وما نحب أن نظلم أحداً ؛ كما نحبّ ألا يظلمنا أحد ..
ولو أن ما يجيئنا من الغرب هو العلم وحده لعددنا من يعترض طريقه خائناً أو كافراً ! إن التقدم العلمي ما يجيئنا منه إلا النزر اليسير ؛ أما الطفح الحيواني والشتات الاجتماعي فسيل دافق ؛ وهنا مكمن الخطر ..
بل إنني أعرف من أبناء أمتنا مَنْ تفوق و بحوث الذرة ؛ فقتله اليهود قبل أن يجيء إلينا ؛ أومن استبقي حيث هو عن طريق شراء العقول مهما غلا السعر ؛
ترى أكان يلقى هذا المصير لو كان فناناً خليعاً ؟.
أو كان أديباً يحمل جراثيم التبشير والاستشراق ؟!.
المأساة التي نشكو منها أن القوى المعادية للإسلام استغلت التفوق الحضاري الحديث كي تنال منا ؛ أو تجهز علينا إن استطاعت ؛ وهذا التفوق وإن لم يكن من صنع يدها فقد تمّ فى أرضها ؛ وتأثر بدعايتها ضدنا ؛ ونحن لن نرتد عن ديننا ولو فنينا إلى آخر رجل ..
والعبرة السريعة من هذا الوضع أن التخلف الحضاري جريمة عانينا منها الكثير وما نزال ؛ وأن هذا التخلف يشمل للأسف ميادين شتى مادية وأدبية ؛ وأن المتدينين الذين لا يعون هذه الحقيقة هم بقية من عصور الانحطاط ؛ أو من هزائم الماضي ؛ وأن على قادة الصحوة الإسلامية أن يكونوا منهم على حذر ؛ فليسوا أقل خطراً من قادة الغزو الثقافي المصمم على إهانتنا وإضاعتنا ..
من المفيد أن أنقل هنا بعض المعلومات التي استمعت إليها من الدكتور صبحي الطويل عن " الحرمان والتخلف في ديار المسلمين " قال : إن خبراء هيئة الأمم المتحدة صنفوا دول العالم إلى ثلاث فئات : غنية ، وفقيرة ، ومعدمة
وأن الفئة الأولى تشكل 25% من سكان العالم وباقي السكان يتوزعون على الفئتين الأخيرتين ؛ وفي سنة 1978 كان ثمانمائة مليون يعيشون في فقر مدقع ؛ فيهم جماهير هائلة من المسلمين تعيش دون مستوى الكفاف منهم على سبيل المثال نصف سكان بنجلاديش " 92 مليوناً " ونصف سكان نيجريا " 80 مليوناً " 70% من سكان الصومال و 60% من سكان تنزانيا و 80% من سكان أندونسيا " 130 مليوناً " 000 الخ.
إن جلد المرء يقشعر وهو يسمع أن تسعة أعشار المسلمين
بين فقير قد يجد القوت وفقير يصرعه الحرمان ؛
ونتيجة هذا الضياع أن الوفيات بين الأطفال في العالم المتقدم 2% أما في بقية العالم فهي 20% ..
يقول المحاضر : ليس في قاموس الطب مرض لا تعرفه بلاد المسلمين ؛ ويموت في الشرق المسلم ـ من تونس إلى باكستان ـ أحد عشر مليوناً منهم مليونان في سن الرضاعة ..
وعن الجوع في أرض الإسلام تحدث المحاضر عن الجفاف الذي اجتاح شرق إفريقية وغربها ؛ والذي أمات الزراعة ؛ وأمات معها الألوف من قطعان الماشية ؛ وذكر أن النجدات التي جاءت لإنقاذ الهلكى أخذها الأحباش لجيشهم الذي يحارب مسلمي أرتيريا والصومال ؛ وتقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة لهيئة الأمم : إن هناك ألف مليون شخص يشكون من نقص غذائي ؛ يموت منهم أحد عشر مليوناً كل عام بسوء التغذية ..
وذكر المحاضر أن مصر تشتري أطعمة لشعبها بثلاثة آلاف مليون دولار سنوياً (!) وأن نقص الحبوب في إندونيسيا والعراق والسودان وسواحل إفريقيا يضطر شعوب هذه البلاد إلى استيراد القمح والأرز بأثمان باهظة ..
قال : وعندما تتأخر الدول الإسلامية " الشقيقة " عن مدّ يد العون تتقدم الجمعيات التنصيرية المنتشرة كالجراد لسدّ الفراغ ؛ وقد وصل تعداد هذه الجمعيات من ثلاث سنين إلى خمسة آلاف جمعية تعودت شراء الجائعين من أطفال ويتامى المسلمين (!) ..
ومما يدعو للدهشة أن وكالة الأنباء الكويتية نقلت خبر عن نشاط اليونسكو في الحفاظ على المعبد البوذي الضخم
" يورد بودر " في أندونسيا ؛ وقد تكلف ترميم هذا المعبد (17.5) مليون دولار أسهمت عدة أقطار إسلامية في توفيره والمعبد الذي شارك المال الإسلامي في تجديده يحتوي على 422 صنما لبوذا ! مع العلم بأن مسلمي أندونسيا لا يجدون الماء الصالح للشرب !! ..
قال المحاضر : في سنة 1912 بلغت الديون التي للشمال على الجنوب أي للدول المتقدمة على المتخلفة 469 ملياراً من الدولارات ؛ وبلغت مقادير الربا المستحقة على هذه الديون 88 ملياراً ..
ويقول " جورج وردز " إذا استمرت الحال على هذا المنوال تكون رؤوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من المبالغ التي دخلتها خلال خمسة عشر عاماً ؛ وذلك بسبب ارتفاع الفوائد ..
ونفهم نحن من هذا الكلام أن الأمم المتخلفة تدفع ربا عن ديونها لو أنه خصم من أصل المبلغ المطلوب منها لانتهت ديونها خلال بضع سنين ؛ فإن الذي يأخذ قرضاً بربح 20% يسدد القرض خلال خمس سنين فقط من الأرباح التي يدفعها وأن ما يدفعه بعد ذلك من دمه هو سحت تأخذه الدول الغنية بحكم القوي على الضعيف ؛ فهي تزداد فقراً على فقر ؛
ويزداد المستعمرون غنى فوق غناهم ..
قال المحاضر : لقد أفضى صافي هذه الحركة العظيمة من الأموال التي يستثمرها الشمال في الجنوب إلى تعزيز إفلاس البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية ؛ والهند وأندونسيا والجزائر ومصر وتركيا وباكستان؛ وفي الدول الست الأخيرة يعيش نصف مسلمي العالم ..
قال المحاضر : في برنامج التثبيت الاقتصادي الذي عقده صندوق النقد الدولي بمصر في الفترة بين سنة 1978 ـ سنة 1981 لإخراج مصر من أزمتها الاقتصادية وتقليل نسبة العجز في ميزانها التجاري ؛ وطبقاً للدراسة التي أجراها الخبير الأول الدكتور رمزي زكي فقد دخل الصندوق الدولي مصر وهي مدينة بـ 800 مليون دولار سنة 1978 ؛ وخرج منها عام 1981 وهي مدينة بـ 18000 مليون دولار !!! ..
أقول : ومعنى هذه الأرقام أن حصيلة ما يكسبه المغتربون المصريون المشتتون فى أرجاء الأرض مضافة إلى حصيلة قناة السويس يمكن أن تسدّ الربا المقرر على هذا الدين الباهظ ؛ فإذا قصَّرتْ ازداد الدين الأصلي ؛ وازداد تبعاً لذلك الربا المطلوب سنوياً ..
ما أتعسنا وأتعس أمتنا وأتعس حاضرنا ومستقبلنا ..
وختم الدكتور صبحي الطويل محاضرته بهذه العبارة : يقولون : إن الإسلام من وراء هذا التخلف !
{[ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ]}..
ورحم الله مالك بن نبي حين قال : التخلف الذي يعاني منه الشرق الإسلامي لا دخل لديننا فيه ولا يتحمل الإسلام وزره ؛ بل هو عقوبة إلهية أوقعها الإسلام بأتباعه جزاء تخليهم عنه ؛ إن المسلمين تأخروا لأنهم تركوا الإسلام لا لأنهم تمسكوا به ؛ فحق عليهم قوله سبحانه : {[ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي ]} ..
وهذا كلام صادق جيد فالإسلام رفع المنتمين إليه في الأعصار الأولى حتى أضحوا الدولة الأولى في العالم ؛
وكان سبقهم الثقافي والسياسي والحضاري بعيد المدى في النواحي المدنية والعسكرية جميعاً ..
أما ما يقع الآن فهو نتيجة ثقافات سامة وتربيات فاسدة وسياسات خائنة يلعن الإسلام أصحابها ويقصيهم عنه ..
إن ركاماً من تقاليد القرون المنحرفة تجمَّع في هذه الأيام العجاف ، وأنزل بالمسلمين هزائم ساحقة ؛ وهي تقاليد ماجنة وغبية ، ما أنزل الله بها من سلطان ؛ ومع ذلك فيوجد من يتمسَّك بها ويدفع عنها ..
وقد بدأ إحساس بالجريمة والندم يخامر الجماهير التائهة ؛ بيد أن هذا الإحساس لا يؤتي ثماره إلا إذا تخلصنا بصرامة من هذه التقاليد وإلا إذا حاكمنا سلوكنا العلمي والعملي إلى صميم ديننا ..
ولنعترف بأن هذه الموروثات ملتصقة حتى بقيادات المقاومة الأفغانية للزحف الشيوعي ؛ فهي تفرق القادة ؛ وملتصقة حتى بالجماعات المهاجرة إلى أوربا وأميركا ابتغاء الرزق ؛ فهي تفسد ذات بينهم ؛ وقد تتدخل الشرطة الأجنبية لفض الاشتباكات التي تقع ..
وقد نظرت إليها ـ بعقل علمي مجرد ـ فرأيت بعضها عادات لا عبادات ؛ والبعض الآخر وجهات نظر فقهية غير ملزمة ؛ أو طبائع شعوب لا تعاليم دين ؛ وقد تكون اعوجاجاً فكرياً ؛ أو أخلاقياً أطال عمره التهاون فتلقاه الرعاع بالقبول ونشأت عنه فوضى واسعة النطاق ..
ويعتمد الغزو الثقافي على هذه الأحوال في اجتذاب أنصاره وبذر أفكاره ..
ونحن لا نرى من الغزو الثقافي المخوف أن ينتشر فن العمارة الغربية ؛ ويضعف فن العمارة العربية ؛ ولا أن يشيع نظام المائدة الأوربية ويختفي نظام المائدة البدوية ؛ للناس أن يختاروا من العادات ما يعجبهم ، فلست متعصباً لقومية إفريقية أو آسيوية ؛ إن توجيهات الإسلام هي التي تعنيني ؛ أما شئون الدنيا فالناس أعلم بما يؤثرون ..
وما يكوِّن الشخصية الإسلامية لا يسوغ التنازل عنه ؛ فإهمال التاريخ الهجري سخف ؛ ومن عقدة الوضاعة أن يُلغى العاشر من رمضان ويحل محله السادس من أكتوبر ؛ إنه تصرف لا يرفع خسيسة ؛ وستبقى هذه الخسيسة ما بقي المسلمون غرباء على دينهم ، بعداء عن هداه ..
وليتنا نُنافس الغرب في قدراته الصناعية والإدارية ؛ وندعم أنفسنا بما نحرزه من نجاح في هذه الميادين .. والحذر من مؤامرات القوم واجب ؛ فإن في أفئدتهم غلاً راسباً لا حيلة لنا فيه ! ؛ وقد رأيت شرههم في امتصاص الدماء ؛ وقسوتهم في اعتصار الشعوب والصعود على حطامها ..
إن همجية المستعمرين الجدد فسَّرتْ لي ما حكاه القرآن الكريم عن آبائهم الأقدمين ؛ وكيف استنفدوا جهودهم في محاربة الإسلام ونبيه دون هوادة :
{[ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ]} ..
وعبارة يشترون الضلالة ؛ والعبارة التي تليها عن رغبتهم
فى إضلالنا ؛ ناضحتان بما فى القلوب من غل ؛
والغريب أن هذا الغل يتنقل خلال القرون ؛ يحمله الأخلاف عن الأسلاف وتتواصى به الأفراد والجماعات ؛ حتى لكأن مر الزمن يزيد الجراح فتوقا بدل أن يعين على اندمالها ..
وقد اشتعلت الحروب الصليبية ولما يسلخ الإسلام خمسة قرون من تاريخه ؛ وظلت قرنين ونصفاً دائرة الرحى تهلك فيها أجيال وتدمر قرى ومدن ؛ ولم يفقد الإسلام حياته خلالها ؛ بل ثابت إليه أسباب المقاومة ؛ ودواعي الثأر؛ فقاد الأتراك زحفاً إسلامياً مضاداً على أوربا ؛ شغلوها فيه بنفسها ؛ وأخروا غارتها الثانية على العالم الإسلامي نحو أربعة قرون ـ كما يقول المؤرخ الإنكليزي "توينبي" ـ لكن مشاعر الضغينة لا تزيدها الليالي إلا ضراما ؛ وبعد اثني عشر قرناً من بدء الدعوة الإسلامية لم تزل الصليبية العالمية تحاول الإجهاز على الإسلام وأمته ؛ كما رأينا ؛ وإن تغيرت وسائلها في حروبها الأخيرة الخبيثة ، ولكنها منذ قرنين تعمل حثيثاً على بلوغ غايتها ..
نعم ؛ منذ قرنين كانت أوربا تفرض سيادتها العسكرية والسياسية على العالم ؛ وتختطف من أطراف العالم الإسلامي وقلبه ما تيسر ؛ وقد استغلت الفوضى الضاربة في أرجائه فكسبت من الحروب الباردة أضعاف ما تكسب من الحروب الساخنة ؛ ورسمت خططها كي تصرف المسلمين بالعنف أو بالحيلة عن عقائدهم وشرائعهم وأخلاقهم ولغتهم العربية وآدابها : ووكلت إلى الاستعمار الثقافي أن يحقق أضعاف
ما يحققه التفوُّق العسكري والصناعي ..
وساسة الإسلام المخلصون يرون أن الحملة الصليبية الحالية التي تدعمها الحركات الحزبية المنتشرة والتي يحكم بعضها دولاً في العالم الإسلامي أنجح من زميلاتها في القرون الوسطى ، وأن حركة " مصطفى كمال " لا تقل عنها ضراوة بالإسلام وتمزيقاً لمقدساته وروابطه ..
وقس على ذلك حركات مشابهة أخرى تقسَّمتْ العالم الإسلامي مادياً وأدبياً لجعله رفاتا هامداً تلتحق فلوله المهشومة بأي جبهة من الجبهات الغالبة على شئون العالم ؛ وبذلك تنقضي رسالة محمد ..
ومع أن الاستعمار الثقافي يعتمد على تفوق الغرب الكبير ؛ بشقيه الصليبي والشيوعي ؛ إلا أن العامل الأكبر في نجاحه هو الفوضى العلمية والاجتماعية التي ترجع إلى سنين خلت..
وقد شعرت بأن هذا الاستعمار يعين الجماعات الدينية التي تنشر في رسائل أنيقة الطباعة أن الأرض ثابتة ؛ وأن النساء شياطين خلقن لنا ؛ وأن الجلابيب البيضاء القصيرة من شعائر الإسلام .. الخ ..
لأن هذا اللون من الفكر الديني يأتي على الإسلام من القواعد والجاهل عدو نفسه ؛ وعدو دينه ؛ وقد انتشر هؤلاء الجهال في ميادين الدعوة على نحو تقرُّ به عين الاستعمار ؛ ويقلق منه الحماة الحقيقيون .
الشيخ/ محمد الغزالي

