النبوءات المتقدّمة والاستشراف المبكر للواقع: دراسة في الميلودراما السوداء"

0


 

يُعَدّ يسري الجندي (1942–2022م) من كُتّاب حقبتي الستينيات والسبعينيات، وقد كانت له إسهامات بارزة في المسرح والسينما والتليفزيون. ترك رصيدًا ضخمًا حافلًا بالعلامات والدلالات على مستويات متعددة، وينفتح على أنساق فكرية وجمالية كثيرة

لقد تمكَّن يسري  الجندي من إنجاز أعمال درامية ذات طابع فكري وجمالي، انشغلت بطرح قضايا بالغة الأهمية على المستويين الاجتماعي والثقافي. ويظهر في مجمل تجربته حرصه على الانفتاح على التراث واستلهام عناصره الفنية والرمزية، من أجل إعادة توظيفها داخل سياق معاصر. ومن خلال هذا التوظيف كان يهدف إلى مقاربة الواقع وتفكيك إشكالاته، إما عبر إسقاطات مباشرة تكشف أبعاده الراهنة، أو عبر إسقاطات غير مباشرة تحمل طابعًا رمزيًا وتأويليًا. وبهذا النهج ظلّ الجندي مشغولًا بقضايا واقعه، ساعيًا إلى تقديم معالجة درامية تسهم في قراءة الحاضر وتوليد وعي نقدي لدى المتلقي.

قدّم يسري الجندي أعمالًا مسرحية متعددة ومتنوعة، شكّلت إضافة بارزة إلى المسرح العربي. فقد أنجز نصوصًا رائدة ومميزة، لاسيما السيرةالهلالية، إلى جانب أعمال أخرى حظيت باهتمام واسع من النقّاد والباحثين. ولو حاولنا إعداد بيبلوغرافيا شاملة لإبداعاته لوجدناها كبيرة وثرية، وهو ما يفسّر عناية الدراسات النقدية بخطابه المسرحي.

وقد توقّف النقّاد عند ثيمات بارزة في مسرح يسري الجندي، مثل ثيمة "الجسد" وما تحمله من أبعاد فكرية وجمالية، فضلًا عن اهتمامه الواضح بالمسرح الذي يستلهم فيه التراث الشعبي ويعيد إنتاجه في سياق فني معاصر. ومن أبرز ما عالجته الدراسات في هذا السياق مسرحياته مثل "الاغتراب ومتاهة الذات" في السيرة الهلالية ، حيث يتجلى البعد التراثي الشعبي متداخلًا مع أسئلة الذات والواقع المعاصر، وهو ما منح تجربة الجندي المسرحية فرادتها وخصوصيتها.

لا يمكننا، ونحن بصدد تناول قضية النبوءات المبكرة أو ما يمكن تسميته بـ الاستشراف المتقدّم للمستقبل لدى يسري الجندي، أن نتجاوز دراسته في إطار الميلودراما السوداء التي شكّلت جانبًا مهمًّا من إبداعه. ففي هذا السياق تبرز أعمال درامية مميزة مثل: "نهاية العالم ليست غدًا"، و"بعد العاصفة"، و"أهلا جدو العزيز ، وغيرها من النصوص التي تمثّل علامات فارقة في مسيرته الإبداعية .

إن هذه الأعمال لا تقف عند حدود المعالجة الدرامية للقضايا الراهنة فحسب، بل تحمل في بنيتها إشارات استشرافية مبكرة تبشّر برؤى مستقبلية وتطرح أسئلة وجودية واجتماعية وسياسية ظلّت حاضرة في النقاش الثقافي لسنوات لاحقة. ومن ثمّ، فإن الوقوف عند هذه النصوص يُعدّ مدخلًا أساسيًا لفهم مشروع يسري الجندي اللإبداعي ، ولا سيما في بعده المتعلّق بقدرته على تخييل المستقبل واستبصار مآلات الواقع.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)