إن من
الإشكاليات التي نعيشها في العصر الحديث هو الصراع المادي المغلّف بالقضايا
الفكرية أو الأطروحات العلمية، فلا يمكن مهاجمة شخصًا أو إنسانا إلا وفق رؤية
منهجية معدة قبل ذلك، وأول ذلك إعطاء الأمر شرعية من الناحية الأدبية والفكرية،
حتى يحتمي خلفها كل من يريد مجابهة هذا الشخص والنيل منه .
لا يمكن قطع
رزق شخص ما مباشرة أو تعطيل أعمالة الإبداعية من أن ترى النور إلا من خلال سياقات
معدة سلفا، حتى يتم محاصرته والقضاء عليه واغتياله معنويًا بعد ذلك.
هذه السردية
تم تطويرها بصور متعددة عبر التاريخ، فقد بدأت بالوسائل التقليدية - شأنها شأن
كافة الأفكارـ لكنها أخذت أساليب غاية في الدقة وبصورة لا يدركها إلا من خَبِر تلك
الدروب، إنها مسألة أشبه بقضية أصحاب القفازات البيضاء، فهم في الظاهر يعالجون
المرضى إلا إنهم في حقيقة الأمر يقتلونهم في صمت دون أدنى أثر لتلك الجرائم.
هذه الرؤية وتلك القضية يصورها الأستاذ الكبير "السيد
حافظ" على امتداد مذكرات من خلال مواقف متعددة تتعلق بالنشر أو العرض المسرحي
أو غير ذلك من القضايا، وهو بذلك يوثِّق
الموقف العملي والحقيقي في تلك القضايا فمن ذلك عندما يقول الكاتب السيد حافظ: "حكى لي " فتحي العشري" أن
"فاروق حسني" قال له : " السيد حافظ " لديه مسرحية عُرضت في
الاسكندرية، فأين نعرضها في القاهرة ؟
قال " فتحي العشري ": تُعرض
في هيئة المسرح أو الثقافة الجماهيرية .
فكتب " فاروق حسني " : يتم
عرض المسرحية أسبوعا في هيئة المسرح وأسبوعا في الثقافة الجماهيرية ..
حدث هذا الحوار في مكتب " فاروق
حسني " عندما ذهب إليه "فتحي العشري" ليبارك له منصبه الجديد، حكاه
لي " فتحي العشري " وأنا أثق به ثقة كبيرة جدا .. إذن الوزير أمر بعرض
المسرحية .. لكن لم ينفذ أحد تعليمات الوزير !! ما هذا يا مصر !!
أصبحت لا أتعجب من شئ .. الوزير يكتب
اعرضوا، ويوقِّع قرار طباعة
أعمال " السيد حافظ " كاملة سبع مرات .. و "سمير سرحان" يرفض؛
متحججا بالتتابع ودوري في القائمة !!
موضوع تتابع الأدوار بالقائمة هذا مثيرا
للسخرية!! ..
ومن تولّى بعد
" فاروق حسني " كالدكتور العظيم " مجاهد أحمد مجاهد " ومن جاء
بعدهم... جميعهم رفضوا !!
سعيت كثيرا
بحثا عن هذا الورق ولأتتبع ما كتبه "فاروق حسني " من طلب عرض للمسرحية،
لكن لما أجده.. أَخفُوا الورق ..." ([1])
هذا موقف يؤسّس
به "السيد حافظ" قضية خطيرة نعايشها في حياتنا اليومية.. نحن مجتمع
المثقفين والأدباء والكتاب يكون مصيرنا الإقصاء والتهميش، ومن ثم التحنيط على قيد
الحياة، بدلا من التكريم و تسليط الضوء على النماذج المشرفة والقدوات الثقافية يتم
إزاحتها خارج بؤرة الثقافة والفكر، والمجتمع حتى تنزوي تلك الشخصيات العظيمة وتصبح في طي النسيان .
التاريخ
يحدثنا في أكثر من موضع، وعلى امتداد السِنون، وجود نماذج عانت بصورة كبيرة من الإقصاء
المتعمد، والإهمال المادي والمعنوي، ومن ذكرة العصر الحديث الشاعر الكبير "بيرم
التونسي" الذي كان يجلس بالساعات على سلالم المعاشات حتى يتقاضى بعض
الجنيهات، لقد ذكر "السيد حافظ" ذلك في مذكراته وعقب عليه وتأسف شديدا
لأننا بلغنا تلك المرحلة. هذه نقطة أولية في قضية
توثيق الحقيقة والحقيقة الموازية التي نرصدها في مذكرات السيد حافظ.
من المؤسف أن
يتناول أعمال "السيد حافظ"
بالنقد والتحليل والتقييم من هو أقل منه في الفكر والثقافة والتأسيس
المعرفي، والأدهى من ذلك أن يتولى تحيكم تلك الأعمال مَن حاله كذلك، وبضاعته في
الثقافة والإبداع مزاجاة ، لايستقيم لديه منهج .
هذا نوع من
المغالطة والمخاتلة المعرفية، وهو نمط معلوم عند من يعرف دورب الثقافة في أمتنا،
أن تُوضَع شخصيات لا علاقة لها بالإبداع وقرائتها للنصوص ليست إلا قراءةً عابرة؛ للتحكيم
في اللجان والمسابقات الثقافية - بقصد أو بغير قصد - .
وقد تَعرَّض "السيد حافظ " وغيرُه من المثقفين
الكبار لمثل تلك المغالطة المُتعمّدة في كثير من الأحيان على امتداد مشروعه
الثقافي، فمن ذلك ما يقصه في مذكراته حيث يقول:" من الأمور الطريفة التي أريد أن أتحدث
عنها اليوم هو الوجع .. وجع الروح .. أمر "فاروق حسني " عام 2007م بعمل
مسرحية لي، دفع لي ثمن التأليف من الوزارة ثم حولها إلى الدكتور " أشرف ذكي
"، الدكتور " أشرف ذكي" وقف معي مواقف انسانية تفوق الخيال، مواقف
أثناء وجودي في الإمارات، وعند عودتي إلى مصر، وما فعله مع ابني أثناء علاجه من
خلال النقابة، وما فعله مع زوجتي ومعي أنا شخصيا، مواقف كثيرة لا تُنسى .. إلا إنه
سلّم أمري – في عرض مسرحيتي على مسرح الدولة - لشاب وسيم محترم وهادئ، صوته منخفض،
يمكن أن يصبح نجما سينيمائيا، ناقد اسمه " محمد مسعد "..
أعطاه النص،
فكتب "محمد مسعد " أن هذا نص فاشل !!
لم أكن أتذكره
في البداية وسألت الدكتور" أشرف ذكي" عنه، فرفض أن يخبرني بحجة أن هذا
ممنوع، ثم أخبرني بعد إلحاح مني أنه شاب ناقد اسمه "محمد مسعد"، فتذكرته
.. هذا الشاب هو نفسه الذي استخدمه مدير مسرح الكوميدي لإيقاف مسرحية ( خطفوني
ولاد الإيه )، حيث كتب تقريرا ضدي وكتب في نقده أن هذه المسرحية غير صالحة، علما
بأن مخرجها كان " مجدي مجاهد " مدير مسرح الكوميدي السابق، وأخبرني أن
" محمد مسعد" – وكان مسؤول القراءة وقتها – رفض النص، على الرغم من وجود
الممثلين: "محمد عوض " و " خيرية أحمد ." ([2])
إن توثيق
الحقيقة يحتاج إلى إقدام وجرئة من صاحبها حتى لا يعلوها رُكَام الزيف والتضليل،
فالناس دائمًا تميل إلى الصوت العالي الذي يسيطر على الفضاء سواء أكان حقا أم
باطلا مادام استحوذ على الأمور، وفي هذه الحالة تُصْنع الحقيقة المزيفة التي يهدف
من خلالها طمس معالم الصواب والحقيقة
الصادقة، ومن ثَم يترتب على ذلك قضايا لا حصر لها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.