الكتابات
الخالدة هي تلك الكلمات التي تعلق بالإذهات وتنطلق في الفضاء عابرة كافة الحدود
والحواجز مُعربَة عن ماهيتها ودلالتها بكافة الوسائل، فهي كالطيور لها أجنحة تحلق
حيث تشاء، وتهبط حيث تريد، لا يمكن اعتراضها؛ فهي تمتلك من السلطات ما تعجز
المواقف الفعلية التعبير عنه .
الكتابة نوع
من المعاناة والمشقة لمن أراد أن يتنكب طريقها، لا تقل لي الكتابة إبداع أو نوع من
الرفاهية، فهذا كلام لا يلتقي والكتابات
الخالدة، فكما قال الشيخ "سيد درويش" إذا أردت أن تكتب شعرًا فعليك أن
تكتب ما يُخلّد.
الكتابة تعني
المسؤولية العلمية والأدبية تجاه النفس والأخرين، والقيمة، وإلا أصبح رعاع الناس
من الكَتَبة والمُتَسلّقة في مقدمة الركْب، هنا معيار لا يمكن لأحد مهما كان أن
يؤثر عليه أو يبلغه، وهو سلطة المكتوب الذاتية التي تنطلق من أحشاءه الذاتية
فقط، النص يدافع عن نفسه وعن وجوده
وقضاياه، ويهاجم صاحبه - قبل عدوه - إذا انحرف عن قناعاته التي كتب بها هذا النص.
إذا أدركت
ذلك علمت أن الكتابة هي المعرفة والعلم والهداية، وهي مهنة الرسل والأنبياء والخالدين. من هذا
المنطلق وتلك الرؤية تخرج إلينا كتابات "السيد حافظ" الذي أثرى المكتبة
العربية بعشرات المؤلفات ما بين المسرح والرواية والقصة، وهي كتابات تنبض بالحيوية
والفاعلية؛ فالنصوص لدى "السيد حافظ" ليست مجرد تسويد صفحات أو كتابات
مؤقتة بوقت معين، وإنما هي كتابات عابرة، ضاربة بجذورها في عمق القضايا الاجتماعية
والفكرية من حولها، كما جاء في: (حكاية الفلاح عبدالمطيع)، (حرب الملوخية)، (وسام
الرئيس)، (قهوة سادة)، (نسكافية)، (كبتشينو) وغيرها من الروايات التي تحمل نصوصًا
حية، نصوصًا فاعلة في واقعها لا تتستر عليه أو تداهنه بأي صورة من الصور.
إن النص
الحقيقي هو النص الكاشف لكل ما حوله من الزيف والاصطناع، وكتابات "السيد حافظ"
من هذا القبيل، فالمسرح لديه " يجسد... صورة الشعوب، وذلك
بالتعبير عن أفكار وعادات وتقاليد وثقافة كل منطقة، فهو بمثابة هويتها، وللمسرح علاقة وطيدة بالمجتمع لا
تنفك بسهولة، فالنص المسرحي مرآة عاكسة للمجتمعات، لذلك يقدم المسرح القضايا
الاجتماعية محاولا إخراجها على شكل إبداعات قصد إبراز أركان المجتمع ومعالجة ما يهدده
من أمراض وآفات"([1]).
فهذا النص الفاعل الذي يقدمه "السيد حافظ" هو " نص معرفي تتلاقى فيه جملة من المعارف الإنسانية، أهمها على الإطلاق المعرفة الأدبية، لكنها ليست
كافية وحدها، ولذلك فإنّ قارئ الأدب الذي يكتفي بمعرفة
الأدب فقط تكون قراءته غير كافية، ومعرفته بالنص هي أيضا غير كافية وحدها، فعليه أن ينزع إلى معارف أخرى لأننا قد نجد في النص الأدبي المعرفة التاريخية والنفسية والاجتماعية والسياسية، وحتى
المعرفة الاقتصادية والعلمية وغير ذلك من المعارف الإنسانية، وهو ما يلقي مسؤولية إضافية على كاهل المشتغل
بالأدب كتابة وقراءة في التزوّد
من المعارف قدر الإمكان للاستعانة بها في قراءة النصوص الأدبية وكتابتها"([2])
ونصوص "السيد حافظ "هي
بمثابة مواقف مؤسسة ومحددة تجاه قضايا متنوعة ومتشابكة مع واقعنا الثقافي، فهي
بمثابة النص الفاعل تجاه تلك الأحداث، فقد
خرج " فينا "السيد حافظ" يحارب ضد الموروث و الواقع و الهزيمه، علي
عتبة العشرينيات من العمر أعلن الحرب علي المباني القديمه في المسرح، اللغة
والدراما والأداء والصورة وكل عناصر المسرح، كان يبحث عن نصر أو غضب يصد النكسة
ويدفع المهانة والعار، كان يدور بين المقاهي وأشكال التجمعات يُعلِن عن ثورة اسمها
التجريب في كل عناصر المسرح (اللغة والتمثيل والصورة و المباني و الموسيقي و السرد)،
التجريب هو اقتطاع جزء من كل معلوم وإعادة بنائه بحيث يصبح كيانا جديدا له منطق ووجود
ولغة وشكل، بهذه الطريقة صور الغضب على خشبة المسرح بمُمَثلٍ ونص وشعر ورقص وموسيقى
وألوان، حاول "السيد حافظ" إنشاء عالم مسرحي جديد ضد النكسة وأصنام
الزمن والكذب . عام١٩٧٠م في الاسكندرية رفع "السيد حافظ" الآذان فقام
معه جماعة الاجتياز المسرحية واستديو الدراما وجماعة المسرح الطليعي وأسس منفردا
جماعة مسرح الطليعة.
مدخل جديد في حياتي ، كنّا مجموعة من الأصدقاء نخرج كل مساء لنلعب
البلياردو وكنا نعيش حاله من التركيز والصمت أثناء اللعب حيث لا ضوء إلا فوق طاولة
البلياردو، كل ماحولها ظلام تام وصمت لا تسمع غير حركة الكرات وقليل من التعليقات،
كان "السيد حافظ" معنا كل مساء يشاهد مباريات البلياردو وهو الشخص الذي
لا يهتم أبداً بغير المسرح و المطالعة، ذات مساء قال "السيد حافظ": هنا
في صالة البلياردو أُشاهد أحدث وأجمل أشكال المسرح حيث الضوء على الطاولة يحدد
مكان خشبة المسرح وعند دخول اللاعب تحت الضوء يبدء المشهد بين الحركة والتعليق
والموضوع يتداخل بين اللعبة واللاعب وأصوات تأتي من الظلام خارج الترابيزة ويشتد
الصراع بين الكُرات والعِصِيّ، و الكلام وحركة دخول وخروج اللاعبين تحت الضوء تخلق
عالما ودراما ولغة وصورة، تخلق حالة مسرحية شديدة السحر والبهجة... هنا انتهى كلام
"السيد حافظ".
بدأت حياتي مع التجريب و صناعه
الدراما من خليط بين الحلم والواقع مع حرية بلا حدود في خلق وصناعة حكايات اسمها
الواقع الموازي أو الفعل الحر، هنا اكتشفت أن أهم وأجمل أشكال الفعل هو تلك
الدراما المسرحية التي يخلقها المؤلف، قد يفتح لك عامود البرق باباً في حالك
الظلام فتجد أمامك عالم من السحر والبهجة اسمه المسرح، هكذا دخلت إلى عالم المسرح
التجريبي حيث وجدتني حر في إنشاء عالم من الجنون والنشوى وجديد القواعد أشجار تطير
وخيل تغني ونساء تحملن بين أيديهن مدن وأسواق، فتح "السيد حافظ" أمامي
باب دنيا أخرى تدين لي بالفضل و الولاء .
"السيد حافظ" ذلك المجنون الذي نصر الحلم ومدّ كَفيْه وأخذ القمر
فرَمَاهُ في عين الشمس فأصبح الظل فوق الشجر والنساء أقرب من الوقت والمسافة، "السيد
حافظ" شيطان ونبي يُرتّل ما تيسر من آيات الدراما، "السيد حافظ"
فتح نوافذ التنوير في عالم المسرح ([3]).
هذا هو النص الفاعل الذي نقصده والذي
تتحور كافة كتابات "السيد حافظ" حوله، نص ينبض بالحيوية والتجديد، وعدم
الاعتماد على المُورَّث فقط، لقد استطاع "السيد حافظ" إخراج الموَرّث في
ثوب جديد يتناسب مع الواقع من حوله ومفرداته الجديدة التي تحتاج إلى معالجةٍ
واقعية ودقيقة، نعم قدم "السيد حافظ" ثورة على الموروث وليس انخلاعا من
الجذور، استدعى التراث لكن في ثوب جديد، انتقد الواقع لكن قدم البديل لبناء
المستقبل، هكذا هي النصوص الحية والفاعلة في واقعها .
([1]) صليحة بن زيادي: النقد الاجتماعي في المسرح الجزائري" مسرح
عبد القادر علولة نموذجا" كلية الآداب، جامعة بسكرة،2015م، المقدمة . (أ).
([3]) مسعد خميس النجار: شهادة في حق السيد الحافظ،
2021م. مدونة الكاتب السيد حافظ، 21/7/2023م، متاح على الرابط الآتي: https://sdhafez.blogspot.com/2023/07/blog-post_3.html