الثقب في أروقة التاريخ

0

 




لا يتوقف السيد حافظ في الجزء الخامس من مذكراته عند نقطة تقديم رؤية حول العملية الإبداعية حتى يتم النهوض بها، بل يتجاوز ذلك إلى استدعاء التراث في عدة قضايا مازالت ماثلة في المجتمع من حولنا، وهذه القضايا بارزة في  الواقع من حولنا، ولها تمثيلات في العملية التاريخية، فيقول:  "من المهم أن نعترف بالتحديات التي نواجهها كأفراد ومجتمعات. فالبقشيش والرشوة هما بالفعل ظاهرتان عميقتا الجذور في الثقافة المصرية وغيرها من الثقافات، فيجب أن نكون واعين لهذه السلوكيات ونبحث عن طرق لتحسين الأمور"([1])

وعندما "بدأت بمتابعة مسلسل أو اثنين مما يسمى بالمسلسلات الشعبية فقد صدمت منها، فكلمة "الشعب" أصبحت بابًا مفتوحًا على مصائب كثيرة، وانتشرت المسلسلات الشعبية التي كانت بدايتها بالفيلم الجميل "هي فوضى"، والذي كان يهدف إلى الإشارة إلى أن العشوائيات ليست بالضرورة مكانًا خالياً من الحلول. أما الآن، فقد أصبح أبطال المسلسلات هم سكان العشوائيات، وكأن مصر كلها أصبحت عشوائية، وكأن البلد كله يتحدث بلهجة مصرية مبتذلة، وألفاظ بذيئة، وكلمات غير لائقة"([2])

 

ولا يتوقف السيد حافظ عن  الثقب في أروقة التاريخ ، وإعادة تقديم قراءة واعية لتاريخ الأمة في عصور محتلفة، وعبر مراحل متنوعة معتدما في ذلك على قراءة واعية للمنجز المعرفي للأمة، والواقع الذي نعايشه الآن؛ ليخرج لنا برؤية مفادها: أن تاريخنا يحتاج إلى مراجعة دقيقة في عديد من النقاط، بداية من العصر الفرعوني إلى وقتنا الحاضر، وقد استوقفتني عبارة جميلة للفنان الكبير محمود مرسي في أحد أعماله الفنية حيث يقول: "إن التضخيم الكبير الذي نقرأه غير مبرر"، أي التخضيم الموجود في الكتابات والأطروحات حول تاريخنا؛ ولهذا فإن النقاط المظلمة في التاريخ والتي تعمد المؤرخون إهمالها أو عدم التحدث عنها تحتاج منا إلى الثقوب فيها حتى تتوازن الصورة وتنضبط المسافة بين الماضي والمستقبل، فمن الأولى الاعتذار عن التاريخ المعيب بدلاً من الدفاع عنه، "فمنذ أن أُنشئ هذا الوطن، ومنذ أن ظهر إلى الوجود، وهو دائمًا ينفي الشرفاء والشهداء، وينسى الشهداء، ولا يحترم الحكماء. إنها طبيعة متكررة منذ آلاف السنين، حتى أصبح الأمل في المستقبل في الشباب." ([3])

وإذا أردت أن تتبع هذه الظاهرة عبر مراحل التاريخ فإنه يمكنك كتابة موسوعات فيها.

وإنني لا أميل إلى المنهج القائم على رصد السلبيات فقط، فيرى الصورة سوداوية، ولا المنهج القائم على رصد النجاحات فقط فيعيش في الوهم الذي تكشفه أول لحظات الحقيقة، وإنما أؤمن بالمنهج القائم على الموازنات في رصد الصواب والخطأ حتى تستقيم الصورة .

ومن ذلك نرى أهمية إعادة النظر في مسيرة الأمة التاريخية، وتقديم قراءة تخدم واقعها ومستقبلها كما فعل السيد حافظ عندما سلط الضوء مرارًا وتكرارًا حول تلك القضايا منذ العصر الفرعوني، حيث يشير إلى مسألة تتعلق بالجينات المصرية – وهي العبودية – وأن رمسيس الثاني كان يهزم في غالبية معاركه لأنه كان يعتمد أسلوبً تجنيد العبيد من النوبة وأفريقيا وهؤلاء يفرون من اللقاء، وبالتالي يقومون بعقد تحالف مع الخصوم وتنتهي الأمور بالزواج منهم وهكذا، يقول في ذلك: "الكذب في الأدب ينبع من قلة الأدب، حيث ينشأ الإنسان أحيانًا على الكذب، ويعتاد نكران الحقيقة، وعدم قول الصدق. فمثلًا، في التاريخ الفرعوني، نجد أن رمسيس الثاني كان في معظم معاركه، أو لنقل 90% (في تسعين بالمائة) منها، مهزومًا. لكنه كان يلجأ إلى عقد اتفاقيات سلام مع عدوه، ويتزوج من إحدى بنات الملك. هذا الأسلوب كان يُمارَس كنوع من التفاهم السياسي أو التكتيكي. على سبيل المثال، كان رمسيس الثاني بعد كل هزيمة يعود باتفاقية سلام ويتزوج من بنات الملوك، وقد استمرت هذه الطريقة في العصر الحديث، حيث كان الملوك وشيوخ القبائل يلجؤون إلى الزواج من بنات القبائل الشهيرة التي يزورونها. وغالبًا ما يتم هذا الزواج في ليلة الزيارة نفسها، وإذا أنجبت المرأة كان ذلك خيرًا وبركة، وإذا لم تُنجب، فلا بأس"([4])

المفارقة هنا ليست في هذا السرد، إنما المفارقة تكمن في اعتبار هذا نصرًا يتناقله الأجيال ويدون على المعابد. لذا أعتقد أن هذه مسألة تحتاج إلى المراجعة .

ولا تتوقف التراجيديا – المأساة – هنا على العصر الفرعوني فقط، فقد أبحر السيد حافظ في مذكراته حول الفلكور الشعبي في رمضان، والطقوس الرمضانية التي أدخلها الفاطميون كالفوانيس، وغيرها من الفلكور  الرمضاني المصري الذي مازال قائمًا في أروقة القاهرة، و" هذا يلفت النظر إلى جينات العبودية المختارة، واستغلال الدين في رمضان، واستغلال الناس. ولا أعلم لماذا لم يكن لدى الذين حكموا مصر أي تعاطف مع الشعب المصري، وهذا شيءٌ محير. فعندما نتحدث عن الحكام الذين أحبوا مصر في التاريخ، نجد أن الباقي كانوا يعتبرون الشعب كعبيد. أتذكر عندما اندلعت المظاهرات في 25 يناير (الخامس والعشرون من يناير)، كانت هناك مذيعة تتحدث مع وزير الإعلام عن أن الشارع لم يكن فيه سوى حيوانات، فكانت النظرة إلى الجماهير على أنهم حيوانات. وهذه النظرة التي ينظر بها الحكام إلى المصريين، أنهم مجرد حيوانات يجب قتلها."([5])

هذه النظرة الازدرائية حيال هذا الشعب ليست وليدة اليوم أو الأعوام السابقة، بل هي منذ فجر التاريخ وعلى امتداده تمثل علاقة مضطربة بين الحاكم والمحكومين في مصر، وإذا أردنا رصد ذلك سنجده بصورة كبيرة وفجة في وقائع حقيقة وموثقة، فلا يمكن أن يكون التاريخ مجرد شعارات ننسجها بطريقة توافق ما نريد لمجرد أننا نحب ذلك، وننحي الحقيقة بصورة متعمدة، فهذا في النهاية لن يفيد في شيء، وإنما يزيد من عملية الزيف وتراكم الأخطاء على عاتق الأجيال القادمة.

ولهذا فإن النداء مازال مستمرًا "أنه من المفترض أن تكون مسلسلات رمضان تتحدث عن الشخصيات التاريخية الهامة، لا أن تملأ بالشخصيات البلطجية التي تُأخذ بالسطوة، أو تظلم في جريمة لم يرتكبها. فلماذا مثلاً لا نصنع مسلسلًا عن مصطفى كامل، أو عبد الله النديم، أو عن جلال أمين، أو العقاد، أو توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ؟ فعلينا أن نعرض إيجابيات وسلبيات الشخصيات، وليس فقط تمجيدها كما حدث مع أم كلثوم أو الخديوي إسماعيل."([6])



([1]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/35

([2]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/39

([3]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/47

([4]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/97

([5]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/56

([6]) - مذكرات السيد حافظ ، تحقيق وتقديم ودراسة د. ياسر جابر الجمَّال ، ج5/61

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)