تمثل
فكرة قتل الرغبات في النفس حالة من الشعور
بعدم الرغبة في أي شيء مما كانت تطمح له النفس فيما قبل، وذلك ناتج عن عاملين
أساسيين هما:
-
عدم القدرة على تحقيقها .
-
كثرة المعادلات في الرأس .
فعدم القدرة على تحقيق تلك الرغبات ناتج عن حالة من الفقر الذي حذر منه
النبي (صلى الله عليه وسلم): "اللهم إني أعوذ
بك من الكفر والفقر"[1]، ففي الحديث الشريف قد قرن
الفقر بالكفر لأنه قد يجر إليه.[2]
فالنبي
(صلى الله عليه وسلم) استعاذ من الفقر لخطورته على النفس، وللأثر السلبي الذي يحدثه
في النفوس من الانكسار، والهزيمة النفسية التي تؤدي إلى أفعال خاطئة، أو فقد الشغف
حول الأشياء التي كانت محببة للنفس لا سيما لدى الأطفال الذين تنكسر في نفوسهم
الرغبة في الأشياء؛ لعدم القدرة على تحقيقها .
فالطفل الذي ليس لديه القدرة على امتلاك الأشياء يفقد الشغف في حالة وجودها
إذا وضعت أمامه، بخلاف الطفل الذي لديه القدرة على امتلاكها فهو دائمًا شغوفٌ بها،
ويسعى إلى امتلاكها، فالأول قُتِلَت فيه الرغبة، والثاني مازال لديه الرغبة
الجامحة في الشغف والتملك .
وهذا مثال واحد حول تلك القضية المهمة التي يحدثها الفقر في النفوس،
وخصوصًا في الأزمنة المتأخرة، فالفقر لم يعد ناتجًا عن عدم العمل وتحصيل الأرزاق
فحسب، وإنما أصبح ناتجًا عن عوامل أخرى كالتحكم في سلاسل الامتداد وتقرير مصائر
الناس، وفق رؤي سياسية واقتصادية هدفها التحكم في سلوك الإنسان، ومن ثم توجيهه
والسيطرة عليه .
لذلك كانت
استعاذة النبي من الفقر يوميًا كل صبح ومساء، حيث يقول: "اللهم
إني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل: ويعدلان؟ قال: نعم. وفي رواية: ويعتدلان"[3].
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَتَعْدِلُ الْكُفْرَ، أَيْ: تُسَاوِيهِ وَتُقَارِنُهُ بِالدَّيْنِ، قَالَ: نَعَمْ"،
فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، يُخَافُ عَلَيْهِ فِي دَيْنِهِ مِنَ
الشَّيْنِ، حَيْثُ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِهِ وَيَخْلِفُ فِي وَعْدِهِ، فَيَكُونُ
كَالْمُنَافِقِ (وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ
وَالْفَقْرِ، قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَيُعْدَلَانِ؟ بِصِيغَةِ
الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، أَيْ: يُعْدَلُ أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ، أَيْ يَسْتَوِيَانِ، (قَالَ: نَعَمْ)، قَالَ: الطِّيبِيُّ: أَيْ
نَعَمْ أُسَاوِي الدَّائِنَ بِالْمُنَافِقِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ
حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ،
وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَمْ يَصْبِرْ عَلَى فَقْرِهِ أَسْوَءُ حَالًا مِنَ
الدَّائِنِ. وَقَدْ رُويَ: "كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا"، وَلِأَنَّ
الدَّائِنَ رُبَّمَا يَكُونُ مُتَحَمِّلًا وَعَلَى رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا[4] . وهذه الأمور جميعها ناتجة
عن الفقر .
وفي أثر آخر يقول : "كاد الفقر أن
يكون كفرًا، وكاد الحسد أن يسبق القدر"[5]
كما يوضح أيضًا
الارتباط الوثيق بين الكفر والفقر بقوله: "كاد
الحسد أن يسبق القدر، وكادت الحاجة أن تكون كفرا"[6]
يقول شراح
الأحاديث: "وذلك لأن الفقر ربما يحمل صاحبه على
مباشرة ما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ويهجم على أي حرام كان ولا يبالي، وربما
يحمله على التلفظ بكلمات تؤديه إلى الكفر[7]
وأوضح صاحب
فيض القدير ذلك بقوله: "كاد الفقر (أي:
الفقر مع الاضطرار إلى ما لا بد منه)، كما ذكره الغزالي -أن يكون كفرًا- أي: قارب
أن يوقع في الكفر؛ لأنه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل
لهم بما يدنس به عرضه، ويثلم به دينه، وعلى عدم الرضا بالقضاء، وتسخط الرزق، وذلك
إن لم يكن كفرًا فهو جارٍ إليه، ولذلك استعاذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من
الفقر. وقال سفيان الثوري: لأن أجمع عندي أربعين ألف دينار حتى أموت عنها أحب إليَّ
من فقر يوم، وذلي في سؤال الناس. قال: ووالله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت
ببلية من فقر أو مرض، فلعلي أكفر ولا أشعر. فلذلك قال: كاد الفقر أن يكون كفرًا؛
لأنه يحمل المرء على ركوب كل صعب وذلول، وربما يؤديه إلى الاعتراض على الله
والتصرف في ملكه...[8]
أما عن المسألة الثانية ، وهي كثرة المعادلات في الدماغ (الرأس) فإنه يقود بدوره إلى
فقد الشغف بالأشياء أيضًا، فالإنسان عندما يصبح المطلوب منه تحقيقه أكثرمن موارده
أو مدخلاته ، ففي هذه الحالة تتراكم المعادلات في ذهنه حول تقديم أي الأشياء في
التنفيذ، فهو يقدم الضروريات ثم الواجبات، ولا يفكر في الرفاهية، خصوصًا إذا كانت
الخيارات محدودة أمامة.
هذا الذي نتحدث عنه من مسألة قتل الرغبة إنما هو ناتج عن عوامل وأسباب،
لذلك فكرة تملك المال وتحقيق ما يضمن كرامة الإنسان، ويحافظ له على كرامته
المشروعة أمر كفلته الشريعة، فقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما سأله
سعد ابن أبي وقاص عن مشروعية التصدق بشطري ماله، فقال: لا، فقال: النصف، فقال: لا،
فقال: الربع، فقال: نعم، والربع كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم
عالة يتكففون الناس"[9].
ولا يصح في
هذا المقام أمر الناس بالزهد والدعوة إليه، لأن هذا غير صحيح، فالزهد في الحقيقة
ناتج عن الرغبة في ترك الشيء بعد تملكه، أما عدم القدرة على الامتلاك ابتداءً لا
يصح معها المطالبة بالزهد .
[1]
- إسناد
الحديث حسن ، وصححه ابن حبان في " صحيحه " ( 3 / 303 )، وابن خزيمة في
"صحيحه " ( 1 / 367 ) والحاكم في "مستدركه " ( 1 / 383 )، والألباني
في "صحيح النسائي"، وقوَّاه محققو "مسند أحمد " ( 34 / 17 )
[3]
- مرقاة
المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1719) قال شعيب
الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: إسناده ضعيف.
[4]
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1719)
[5]
- شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن
(10/ 3220)
[6]
- معجم الطبراني . قال
الحافظ العراقي : وفيه ضعف، وقال السخاوي: طرقه كلها ضعيفة.، انظر ، فيض القدير (4/
542)
[7]
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري (23/ 5)
[8]
- فيض القدير (4/ 542)
[9] - شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 168)، وشرح النووي على
مسلم (11/ 77)

