الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فإن توارث الصفات وانتقال الجينات عبر
الأجيال قضية مؤسسة في علم النفس والأحياء فيما يعرف بعلم الوراثة سواء ما يتعلق بالصفات
الجسدية كاللون، الطول، والقصر، أو الصفات المعنوية الممدوحة أو المذمومة، كالصدق،
والكذب، والخوف، والشجاعة، والعدل، والظلم، والمكر، والخداع..... إلخ .
وقد أوضحت السنة النبوية ذلك، فقد جاء رجل من بني فزارة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلامًا
أسودًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من
إبل ؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن
فيها لوُرْقا، قال: فأنَّى أتاها ذلك؟ قال عسى أن
يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق"[1].
و عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة
قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تغتسل
المرأة إذا احتلمت، وأبصرت الماء؟ فقال: نعم، فقالت لها عائشة تربت يداك وأُلَّت،
قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك ؟! إذا علا ماؤها ماء
الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه" [2]
فهذا استشراف مبكر لتلك
القضية التي نؤسس لها ونتناولها بالطرح والتعليق، حيث تنطلق الصفات من الأجداد إلى الأحفاد.
ومن ذلك ما قصه القرآن
الكريم في الحوار الذي سجلته سورة البقرة
بين نبي الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل (اليهود)، وحجم المعاناة التي تعرض لها في تلك
القضية، وما تحمله هذه القضية من دلالات عديدة قديمًا وحديثًا، يقول تعالى: ﴿إِذْ
قَالَ مُوسَيٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ
قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا
فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي
الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
(70)﴾ [البقرة:
67:71].
هذه قصة تبين
لنا طبيعة الشخصية اليهودية التي تتحاور مع نبي من أنبياء الله –موسى عليه السلام– وأنها شخصية
تحمل أنماطًا سيئة متعددة كالاستكبار، والاستعلاء، والمماطلة، والمراوغة، وغيرها
من الصفات المذمومة، كما توضح طبيعة الجدال المتجذر في تلك الشخصية، وأنها تحاول
المماطلة، أو التهرب من الالتزام بأي عهد، أو وعد أمام الله (عزوجل).
فقد جاء عن
مناسبة نزول هذه الآية الكريمة ما أورده ابن كثير بسنده، حيث قال: "قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا ولد له، وكان له مالٌ
كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم
أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهي:
علام يقتل بعضكم بعضًا، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام، فذكروا ذلك
له"[3]، فقال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا
أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)
.
فكانت هذه هي النقطة الأولى في بيان طبيعة العقلية
اليهودية، وهي أخذ أمر الله على محمل الهزل وعدم الالتزام بما جاء به موسى عليه
السلام، ولذلك قسم العلماء الحالة التفاوضية التي وقعت بينهم وبين نبي الله موسى
عليه السلام إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الرفض .
المرحلة الثانية: المجادلة في تنفيذ الأمر .
المرحلة الثالثة: القيام بالأمر مع الإكراه .
وقد عبرت الآيات عن ذلك بصورة دقيقة في عرض الحوار
الذي وقع بين اليهود ونبي الله موسى عليه السلام، وهذا يوضح لنا طبيعة الشخصية اليهودية
في التفاوض، وأنها لا تتفاوض لتصل إلى الحلول، وإنما تتفاوض لتحقق مكاسب على الخصم،
وإلا فإنها لا تلتزم بأي تفاوض ولا عهود لديها في ذلك، ولذلك قال: "فلَو لم
يَعتَرِضوا البَقَرَ لأجزأت عَنهُم أدنَى بَقَرَةٍ، ولَكِنَّهُم شَدَّدوا فشُدِّدَ
عَلَيهِم، حَتَّى انتَهَوا إلَى البَقَرَةِ التي أُمِروا بذَبحِها، فوَجَدوها
عِندَ رَجُلٍ لَيسَ له بَقَرَةٌ غَيرُها، فقالَ: واللهِ لا أنقُصُها مِن مِلءِ
جِلدِها. فأخَذوها بمِلءِ جِلدِها ذَهَبًا، فذَبَحوها فضَرَبوه ببَعضها فقامَ،
فقالوا: مَن قَتَلَكَ؟ قال: هذا. لابنِ أخيه، ثُمَّ مالَ مَيِّتًا، فلَم يُعْطَ
ابنُ أخيه مِن مالِه شَيئًا، ولَم يوَرثْ قاتِلٌ بَعدَه"[4].