ونريد هنا أن نفرق بين الحفاظ والمحققين، فإن الحافظ رجل يجيد الاستيعاب والإحصاء، ويحفظ في ذاكرته مخزونا ضخما من الآثار والآراء، إلا أنه ضعيف الوعى بالحقائق الدقيقة، والمرامى البعيدة، ثم هو لا يقرأ ما بين السطور، ولا يملك ملكة النقد..، أما المحقق فرجل يقظ الحس، ذكي النظر، يستخلص الفوائد الكبيرة من الكلمات القلائل- وهو ينظر فى حصيلة الحافظ كما ينظر الأستاذ في مسودة لما تنقح بعد. وقد أتى الإسلام من غفلات الحفاظ، واحتقابهم كل ما يعرض لهم... خذ مثلا رجلا كـ "السيوطى" ، فهو حافظ من أكابر الحفاظ، إلا أنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين، بل يجمع الحق والباطل... أما الشيخ "محمد عبده" مثلا، فقد كان رجلا عقله أكبر من حفظه، وبصره بالحكمة الإسلامية أحد من إحاطته بالآثار الواردة. ولولا أن تلميذه الشيخ "محمد رشيد رضا" غطى هذا النقص لشغب عليه الكثيرون. والذي نبغيه من جمهرة علماء الدين، أن يأخذوا الخير من أطرافه، فيكون باعهم طويلا فى معرفة الآراء والمذاهب والآثار المختلفة، ويكون فقههم دقيقا حتى لا يحرفوا الكلم عن مواضعه.... إن الفكرة الشائعة عن الإسلام تحتاج إلى تصحيح فى أذهان خصومه وأصدقائه. وقد سألت نفسي يوما: لو أن الحكم الفردي لم ينشأ مبكرا فى تاريخنا نحن المسلمين، أكانت سياسة الحكم والمال تأخذ وجهتها التى سادت خلال عصور طوال؟. إن تصرفات الحكام المسلمين تركت ظلالا شتى على سير الإسلام بين الناس، كما تركت ظلالا شتى على الحياة الاجتماعية والعقلية للأمة الإسلامية.. ومن حسن الحظ أن الإسلام معصوم الأصول، وأنه لا قداسة فيه لبشر، وأن صاحب الرسالة وحده هو الذي يدان له بالولاء والطاعة. وقد استطاعت الحقيقة الإسلامية أن تشق طريقها على كثرة العوائق، كما تشق أشعة الشمس طريقها وسط ركام من الغيوم... وعندما نلقى نظرة على الأمة الإسلامية الكبيرة- وهي الآن مجموعة من الشعوب المتخلفة- نجد أن تقهقرها في الحياة يعود إلى أنها معزولة روحيا عن ينابيع ثقافتها الصحيحة، وأن العوج الذى لابس معرفتا الدينية يكمن وراء هذا التخلف. ذلك إلى جانب التمرد على جملة من التعاليم النافعة البينية.
ليت شعري؟ أين القدرة على الحياة والجرأة على المجهول التي فاضت بها سيرة أسلافنا الأوائل؟. القدرة والجرأة اللتان جعلتا القائد الإسلامي الخارج من أعماق جزيرة العرب يقف على شاطىء المحيط الأطلسى، وهو يكاد يثب إلى الشاطىء الآخر لو استبان أرضه!!!. لا أدري ما الذي أفقد المسلمين في العصور الأخيرة هذا الطماح وذلك النشاط؟. لقد عجزوا في شئون الحياة عجرا شائنا، وظهر هذا العجز شللا فى رسالتهم وركودا في دعوتهم، ولا غرو فإنه يستحيل أن تنجح رسالة ليس لأهلها تمكين في الأرض، وخبرة بعلومها وأحوالها. وعندي أن وزر ذلك يحمله عدد من مفسري القرآن وشراح الحديث إلى جانب جمهرة المتصوفين والمتكلمين!. ذلك أن الإيمان بالله والشعور بعظمته يجيئان ابتداء من النظر في الكون ودراسة قوانينه وكشف أسراره!. ولو أن المسلمين استجابوا لله ورسوله في تفهم الكون واستشفاف آفاقه، لاطرد تقدمهم فى علوم الكيمياء والطبيعة والنبات والحيوان وغيرها، ولكانوا أسبق الأم إلى امتلاك ما في البر والبحر من ثروات، ولأعلوا بذلك كله راية الإسلام، وحرموا الضلال!
من أسباب البقاء والمنعة. لكنهم- من أثر الئقافة المريضة- لم يدركوا أن آيات العظمة الإلهية مودعة في خلق الأرض والسماء، فظنوا أنهم يعظمون الله بترديد بعض أسمائه الحسنى، أو الجدل النظري في صفاته، أو بالنظر السطحي في ملكوته، ثم الانطواء على النفس واعتزال الدنيا. وإني أعترف بأن شعاعا من إجلالى الله كان يسطع في فؤادي عقب قراءة علم الفلك أو اطلاع على علم الأجنة، وأن ذلك كان أربى ألف مرة من معاناة ورد أو استيعاب قضية في فلسفة العقيدة، أو صحبة مفسر للكتاب والسنة قاصر المعرفة.
_محمد الغزالي : ركائز الإيمان بين العقل والقلب.

