المسلم الحقيقي والديكور .

0




" والأفراد النابهون لا الجماهير الكثيفة هم صناع الحياة وقادة الفكر والخلق ! ! فكم من أمة ظلت تغط فى سباتها دهرا حتى جاء من أيقظها فثارت.. وكم من أمة شردت عن الصراط المستقيم حتى رزقت من هداها فرشدت.. على أن أولئك المتفردين العباقرة أنواع ! فمنهم من رمق القافلة التائهة وأبى أن يندفع معها فى وجهتها، واكتفى بأن ينفض يديه من أمرها ، وألا يشاركها فى مسيرها ، وكأن أبا العلاء المعرى يصور نفسية هؤلاء عندما قال : خذى رأيى ، وحسبك ذاك منى على ما فى من عوج وأمت وماذا يبتغى الجلساء عندى؟ أرادوا منطقى وأردت صمتى؟ ويوجد بيننا أمد قصى فأموا سمتهم وأممت سمتى .

والواقع أن اعتزال المجتمع الماجن الفاجر جهد غير قليل. ترى هل هذا هو التغيير بالقلب الذي عده الحديث الشريف أضعف الإيمان؟ ربما ، ولكني ألحظ أن هذا الموقف قد يكلف صاحبه تضحيات فادحة ، فإن المغاضبين لله قد يطلبون الأعوان على سيرتهم بالرغبة أو الرهبة .

 وربما قالوا : من ليس منا فهو علينا ! ! وهنا تقع محن شداد، فإن الإمام الأعظم أبا حنيفة كان مزورا عن حكام عصره ، مكتفيا بتفقيه الجماهير فى دين الله، ولكن هؤلاء رأوا ضمه إلى صفوفهم كرها بأن عينوه قاضيا للقضاة ، ومات الإمام فى السجن وهو يرفض المنصب المعروض!! 

وهناك رجال من طراز آخر، لا يدعون المنكر يمر سالما أبدا، ويأبون إلا كشف زيفه وهدم صنمه، ومقاومة الجماهير العاكفة عليه.. وإذا كنا فى مجالس المناظرة، أو عند تحبير المقالات، نظن اعتراض التقاليد المستقرة أمرا سهلا، فإن ذلك عند المعاناة العملية أمر شديد الوعورة مقلق الأخطار.. إن للوثنية عبادا يأكلون من يخدشها.. وانظر شدة غضب هؤلاء على من يعترض طريقهم فى قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) وانظر شدة تمسكهم بباطلهم وإصرارهم على ملازمته أبدا فى قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها …) ! ! فى وجه هذا التعصب الهائل ، وفى وجه القوى الخفية ، والجلية التى تؤازره ، يعمل المصلحون لتغيير أوضاع وتبديل أحوال، ويتعرضون لنكد الحياة وسوء المنظر فى الأهل والمال ! ! وعندي أن العبادة المنقطعة فى الصوامع ضرب من البطالة ، أو هى على إحسان الظن والتعبير من المتع المعنوية ، واللذات الروحية، يوفر لأصحابه الجو النفسى السعيد وحسب..!! لكن هل يتغير وجه الحياة الدميم بهذه العبادة الخالصة؟ هل تنكمش سطوة الباطل بهذه الرهبانية المستوحشة من الخلق المنقبضة عن الدنيا ؟ كلا.. إن الصلاح تزكية النفس ، والإصلاح تزكية المجتمع . والمسلم الحقيقي هو الذى يتعهد نفسه بالتقوى ويقبل فى الوقت نفسه على المجتمع ليؤازر الحق ويعوق الباطل ، ويحب فى الله ويبغض فى الله ، ويكثر سواد المؤمنين ويوهن كيد الكافرين . 

إن الحياد فى كل معركة بين الخسة والشرف ليس موقفا مقبولا ، وأصحاب هذا الموقف هم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان..!! إن إبراهيم الخليل لما رفض الوثنية لم يسترح حتى هدم الأصنام ، وكذلك فعل خاتم الأنبياء ، وإن كان طريقه أطول وجهده أشق !! ومن ثم كانت رسالات الله تغييرا حقيقيا للنفس والمجتمع ، وثورة لا تجرد على العوج والفساد والظلم . كانت محوا وإثباتا ، محوا لعرف سيئ وإثباتا لعرف صالح ، محوا لتشريع ضال وإثباتا لتشريع حق . . إن كل هداية لا تتحول من صلاح نفسى إلى إصلاح اجتماعي فهي- في باب الخير- كالجنين الذى سقط قبل استكمال نموه ، فما قدرت له حياة ممتدة، ولا عرف له تاريخ مشرف . وبدهى أن ينهزم الخير السلبي أمام الشر الإيجابي.. ماذا فعل صالحونا- فى قرون الضعف- لما آثروا العبادة فى زواياهم وتركوا لغيرهم أن يكتشف أستراليا والدنيا الجديدة وينقل إليهما عقائده وتقاليده؟ ما أفاد الدين من سيرتهم شيئا طائلا على حين ظفر بالحياة من ظفر!! وإني لأنظر إلى نعمة الإيمان التى تغمرنا فأجدها ثمرة قوم وثبوا بالإيمان من أرض إلى أرض ، ووضعوا طابعهم بقوة على المجتمع ، فسرت صبغتهم من جيل إلى جيل . . على رجال الحق لا أن يثبتوا عليه فقط بل أن يصعدوه من أفق إلى أفق وينقلوه من قلب إلى قلب . فإن الباطل المتحرك على ظهر الأرض لن يوقفه إلا إيمان متحرك ناشط مقدام . . !

 في ذكرى الميلاد الشريف أرنو إلى صاحب الرسالة العظمى بإعظام ودهشة وأتساءل: كيف استطاع اليتيم الفرد إعداد القوة التي فتكت بالباطل المستكبر واستخلصت من براثنه حقوقا منهوبة ، وشعوبا مستباحة ؟ كيف أعاد إلى الحق رونقه بعد ما تكدر ، وقيمته بعد ما ابتذلت ؟ 

إنها السيرة المعجبة المعجزة التي أقلقت المبطلين ، وقذفت في نفوسهم الفزع حتى ليقول هذا الرسول البطل: "نصرت بالرعب من مسيرة شهر" !! أين من هذا الأوج ، أمتنا التي استنسر في أرضها البغاث ، وبالت على آلهتها الثعالب ؟ ؟

 ما أبعد هذه الأمة عن محمد ! وأضلها عن طريقه ! 


- محمد الغزالي : حصادالغرور.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)