*هزيمة الاستبداد الأعمى - بقلم: الشيخ محمد الغزالي*
ثم جاءت سنة 1967 ؛ وجَنَينا الحصاد علقماً ؛ لكني ما فكرت قط في أن الخزي الذى نـزل يحمل كل هذا السواد ؛ ويَلُفُّنا في عارٍ لا أول له ولا آخر ..
يا أسفا على بلدي المحروب وأمتنا المغشوشة ؛ في عشرين دقيقة فقط دُمّرت مطاراتنا كلها ؛ واحترقت طائراتنا وهي جاثمة على الأرض ! ..
ولمَّا كان لدينا أعظمُ جهاز للكذب في دنيا الناس فقد خرج الإعلام الموجَّه بجناحيه - الصحافة والإذاعة - يقول للناس : إننا دمرنا طائرات اليهود ! ..
وما هي إلا أيام تعد على الأصابع حتى كان الجيش بين قتيل وأسير وهارب، ما أغنى الكذب عنه شيئاً ! ..
غالطت نفسي يوماً ؛ وقلت لها: صحيح أن الحريات لا بد منها لضمان مصالحنا المادية والأدبية ؛ أمَا يمكن أن يكون تولِّي العسكرَ الحكمَ ضرورةً مقبولة لمواجهة إسرائيل ؟.
سيبنون جيشاً قوياً ؛ ويوجهون مواردنا كلها لكسب الحرب ؛ وهذا ميدانهم الذي تخصصوا فيه ! ..
وجاءت الأحداث تقول : إن الحكم الفردي الجائر لا يكسب معركة أبدا ! ؛ بل الغريب أن أعظم هزائمه كانت في الميدان الذي تخصص فيه !..
إن جمال عبد الناصر لم يكسب معركة قط إلا المعركة التي أدارها ضد إخوانه وضد الإسلام وضد كرامات الناس ! ..
في هذه المعركة قدر على تخريب آلاف البيوت ؛
وسجن الألوف من الأبرياء ؛ واستطاع أن يدفن في أرض اليمن مائة ألف مسلم ؛ عدا الذين قتلوا سرّاً وعلنا في مصر !
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة *
فَتْخَاءُ تَنْفِرُ من صفير الصافر !
هلاّ برزت إلى غزالٍ في الوغى
بل كان قلبك في جناحَيْ طائر !
وإن تعجب فاعجب لجهاز الكذب الذي بقي يعمل دون توقٌّف !
قيل لنا : أتظنون أننا انهزمنا؟ كلا، إن العدوّ لم يحقق هدفه ! إنه كان يريد إسقاط جمال فخاب سعيه ! ..
أرأيت صفاقة أوقح من ذلك ؟.
وعلمت بعدُ أن هذا الإسفاف منقول عن دعايات البعث العربي بعد الهزيمة التي مُنِيَ بها هو الآخر ! ..
إن إسرائيل تدفع أضعاف ميزانيتها بضع سنين ؛ كي يقع انقلاب عسكري من هذا الطراز ؛ في كل بلد عربي !
لأنه يضاعف رقعتها ؛ ويؤكد سلامتها ؛ ويحفظ حاضرها ومستقبلها ..
وفي الأزهر والأوقاف أخذت الدعاية تعمل تحت عنوان :
" نكسة أحد " ! بالله ما صلة هزيمة 1967 بما أصاب المسلمين في أحد ؟.
ما صلة السكارى والحشاشين بالصديقين والشهداء ؟.
ما صلة ناس لم يخسروا شبراً من أرض ولم يضيعوا ساعة من الوقت بعد خطأٍ تورّط فيه بعضُهم؛ فاحتشدوا على عجل وخرجوا يطاردون العدوّ الذي أصاب منهم غِرّة؛ ما صلة هؤلاء بمن فقدوا كل شيء دون سبب واضح إلا الغفلة والسفه ؟
إن ( الدين ) مُرِّغ في الوحل كي يرضى الحاكم الصغير عن بعض الناس !!! ..
الواقع أن حالة الجيش كانت رديئة ؛ لأن أحسن الكفاءات أُبْعِدَتْ عنه عمداً ؛ ولو تمّ تحقيقٌ نـزيهٌ في حالة مصر كلها لظهر أن مصر بعد رُبع قرن من الانقلاب العسكري (يقصد ما حصل سنة ١٩٥٢) كانت تترنح من الناحية الروحية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية ..
وإذا كانت الظروف قد كشفت تخلُّفنا السياسي والعسكري فهي المصادفات التي أزاحت الغطاء عن المستور ..
ورأيي أننا تقهقرنا إلى أيام الخديوي إسماعيل ؛ وأن تخلفنا الحضاريّ لا يستره ازدياد عدد السكان وارتفاع المقادير المستهلكة من الطعام والشراب ..
لاحظت أن الحس الديني عند المصريين جعلهم يردُّون الهزيمة إلى هجران الدين ومحاربة أهله ! فماذا فعل جمال عبد الناصر ليعلن انعطافَه إلى الدين وصلحَه مع الله؟ انتظَرَ أولَ حفلٍ لمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم فذهب إلى مسجد الحسين ليشارك فيه ! ذهب بعد صلاة المغرب وانصرف قبل صلاة العشاء ! ..
إن الرجل انقطعت علاقته بالإسلام منذ أمَدٍ بعيد ؛ وأظن ذلك يرجع إلى صداقته مع تيتو (رئيس يوغوسلافيا الشيوعية) وسوكارنو (الرئيس الشيوعي لأندونيسيا المسلمة) ونهرو (رئيس الهند الهندوسية) وغيرهم ؛ فقد حسب أن أولئك الرهط من الرؤساء على درجة عالية من الثقافة والمكانة فأحبَّ التشبُّه بهم والنسج على منوالهم ! ؛ ولم تكن لديه حصيلة من المعرفة واليقين تنأى به عنهم ؛ فألحَدَ مثلهم ليكون عظيماً هو الآخر ! ..
ولعل مما أعانه على مروقه شيوخ الأزهر الذين ازدلفوا عنده طلاب دنيا ؛ ولو كان فيهم من يهاب الله لتماسك الإيمان قليلاً في نفس هذا البائس ..
وحدثت بعد الهزيمة تمثيلية الاستقالة والنكول فيها ؛ ورأى الناس في مجلس الأمة المصري منظراً نُقِلَ إلى القارات كلها لما يصرخ به من دلالة مهينة ؛ فقد وقف عضو في المجلس يرقص! لعودة الرئيس في استقالته ! ..
والعضو الراقص يفعل فعلته تلك وعشرات الألوف من جنودنا أسرى لم يطلق سراحهم (في هزيمة ٦٧) ؛ وآلاف القتلى والجرحى يملأون البيوت أحزاناً ! ..
إن هذا العضو لا يحسن تمثيل نفسه ولا أسرته ؛ ولكن النظام الذي وضعه الحاكم الفذ الذي استكثر من هذا النوع ؛ وجعله – وهو الجدير بأن يُحجرَ عليه - قوّاماً على شئون الأمة ! ..
إنه يرقص لأنه سيبقى هو ؛ فلو جاء حكم شرعي لا زيف فيه لعاد إلى الفلاحة أو إلى أي حرفة آلية يأكل منها ؛
وحسبه ذلك ..
إن الاستبداد الأعمى يحتاج في سناده إلى أشخاص غير طبيعيين يتبادل معهم المنفعة ؛ يسترون نقصه ويتجاوز عن قصورهم ؛ ويتعاونون جميعاً على قيادة القافلة إلى الهاوية ..
الحق يقال إن سوق الجهل نفقت في هذه السنوات العجاف ؛ انهزمت الرجولة والخبرة والديانة ؛ وتقدم مجيدوا الإنحناء والتزوير والاستغلال ! ..
إنني أعتبر أن جمال عبد الناصر مات سنة 1967 ؛ وإذا كان قد تأخر سنتين عن ترك هذه الدنيا ؛ فإنه على أية حال ورَّث العرب عاراً تسودُّ له الوجوه ؛ وورَّث اليهود نصراً لم يحلموا به يوماً ؛ وورَّث المسلمين مشكلات أعقد من ذَنَب الضَّبّ ! ..
--------
(*) من مذكرات: قصة حياة، للشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
 


 
