يقول العلامة الشيخ الدكتور محمد الغزالي السقا" ...وتوارث الناس بعدئذ أن اليهود إذا ملكوا اختفت من الأرض العدالة والبركة، وأن عواقب نقضهم لعهد الله تتبعهم حيث كانوا.
نعم.. لقد أخذت عليهم المواثيق أن يؤمنوا فلا يكفروا وأن يصلحوا فلا يفسدوا وأن يعدلوا فلا يظلموا، والغريب أنهم يقترفون شر الآثام ثم يرتقبون جزاء المؤمنين والمصلحين الأوفياء..!
وتقوقع اليهود عمدا فى الحارات التى اختطوها لأنفسهم داخل المدن الأوروبية الكبيرة. وذلك كيلا تذوب شخصيتهم وسط الشعوب التى عاشوا بين ظهرانيها، وبقى لهم طابعهم الفذ المنحرف الذى يدعى الأصالة، أو الطريد الذى يدعى أنه المختار!
ومنذ حاولوا قت ل عيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ظلت جراثيم الفتك بكل مصلح تسرح فى دما ئهم، وتغريهم بأقبح الفعال. ولم يكن مستغربا أن تتنكر الدول الأوروبية كلها لهم على امتداد الأعصار والأمصار..
وإنما كان موضع الغرابة أن يستدير بنو إسرائيل إلى العرب فيبطشوا بهم، وينالوا منهم، ويمحوا معالمهم، ويدكوا قراهم، ويشتبكوا معهم فى صراع فناء!
والغرابة تجيء من أن العرب أحسنوا إلى اليهود، ولم يحاول حاكم عربى إبا دتهم طوال القرون الماضية على حين حاول ذلك الأوربيون جيلا بعد جيل!
قال لى صديق ـ بعد أن ضر ب اليهود المفاعلات الذرية ببغداد ـ : ليس هذا أول غدر للقوم ولن يكون الآخر! إن اليهود قت لوا عددا من علماء الذرة العرب، الرجال والنساء، قت لوهم فى معاهد العلم أو فى الفنادق التى ينزلون بها. وهم سيغيرون على أية عاصمة عربية أو إسلامية تخاصمهم دون رعاية لأى عهد دولى أو محلى! وصوت اليهود يعلو عن القيم والأخلاق أيام ضعفهم وحسب فإذا ملكوا القوة تحركوا فى كل اتجاه، وضر بوا بكل سلا ح..
وما دامت العصا التى تردع غائبة فلا شىء يمنع الغزو والسوط والتبجح والصياح.
إن القرآن وصف هذا المسلك الخسيس بأنه ليس سلوك بشر طيبين وإنما هو سلوك حيو انات شرسة: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
وعلاج هذه القطعان الخئون لا يكون بالهوادة والرفق، بل ارقبهم واستعد لهم فإذا تحركوا للغدر فاضر ب من ظفرت به ضر بة يطير لها قلب البعيد، وتنقض بها جموع الخو نة: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).
فى المأساة التى تمر بالعرب الآن لا ألوم إلا اليد العزلاء بين المخالب المفترسة، والعين الهاجعة بين العيون الخائنة، والصف المختل أمام جبهة متساندة من الجزارين العتاة.
قلنا إنه عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شىء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما فى المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا.
والتدين المغشوش يبدأ بعقد صلح بين الهوى الخاص والتوجيه الأعلى، وبطريقة ما يبلغ المرء غرضه مع حسبان أنه لم يغضب الله! كذلك فعل اليهود عندما وجدوا السمك يجىء كثيرا يوم السبت ـ والصيد فيه حرام عندهم ـ ويكاد يختفى بقية الأسبوع.
وهكذا اختبرتهم الأقدار، فكيف يحتالون لصيد السمك الكثير دون العد وان على السبت؟ صنعوا حاجزا وراء السمك المقبل، وتركوه فى الماء وديعة محفوظة ثم استخرجوه يوم الأحد.
(واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون).
والحيلة مكشوفة، ولكن الشهوة الغالبة يعنيها فقط أن تمضي في طريقها.
وقد جاء الإسلام بجملة من الضوابط الخلقية والفكرية لتبرئة التدين من هذا العوج، ولاستبقائه نقاوة في الصدر وشرفا في القصد واستقامة على النهج واستشرافا للرضوان الأعلى.
ويتجلى ذلك في تصحيحه للمفاهيم الشائعة، أو في تجلية معان قد يذهل عنها الجمهور الكبير لأنه مرتبط ذهنيا بالمعاني القريبة. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.. والغنى غني النفس والطمع هو الفقر الحاضر..
إنك تلمح في هذه التوجيهات كيف يتحول التدين من كمال نفسي إلى كمال اجتماعي، وكيف تنضح التقوى على البيئة فتملؤها بالنظام والعفة والأمان. ولما كان العرب تجارا يكرهون الكساد والإفلاس، فقد استغلت هذه الغرائز فيهم ليطلبوا الأشرف والأزكى، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم).
وجاء في الحديث الصحيح هذا التساؤل الذي يحول الإيمان إلى سلام وشرف وخلق رفيع: "أتدرون ما المفلس. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا".
إنه مفلس، لأن عبادته كلها طاشت فلم تغن عنه شيئا بعدما اقتص رب العباد منه. إن التدين ليس شقشقة لسان، أو عادات أعضاء تلتوى وتنفرد، إنه قبل كل شيء قلب سليم وفكر مستقيم، ينشأ عنهما مجتمع كريم.
على هذه الطريقة في تحديد المفاهيم الصحيحة، ولفت البصائر إلى حقائق أثمن. تأملت فيما ذكره البيهقي مرويا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هل تدرون ما الشديد؟ قلنا: الرجل يصرع الرجل! قال: إن الشديد كل الشديد الرجل الذي يملك نفسه عند الغضب. أتدرون ما الرقوب؟ قلنا: الرجل الذي لا يولد له! قال: إن الرقوب الرجل الذي له الولد ولم يقدم منهم شيئا ـ يعني في سبيل الله ـ قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قلنا: الرجل الذي لا مال له. قال: إن الصعلوك كل الصعلوك الذي له المال لم يقدم شيئا ـ لله تعالى ـ ".
إن الشكليات التي أولع بها نفر قليل أو كثير من المتدينين لا تزيدهم من الله إلا بعدا، ولا تزيدهم للإسلام الحنيف إلا ظلما. فهل نعود إلى الحقائق المجردة نهتم بها ونعول عليها؟
_الشيخ/محمد الغزالي _علل وأدوية _

