النبوءات المتقدّمة والاستشراف المبكر للواقع: دراسة في الميلودراما السوداء"2

0


 

تمثل الأعمال التي قدّمها يسري الجندي نصوصًا ذات أبعاد متعدّدة، تنفتح على مستويات من الدلالة والتأويل. فهي أعمال تغوص في الترميز، وتستحضر إشكاليات التاريخ بما يحمله من ألغازه وأحاجيه، ثم تُسقِط هذه الرموز على الواقع المعاصر في محاولة لقراءته أو مساءلته. ويمكن النظر إلى هذه الأعمال من زاويتين:

من جهة، نجد نزوعًا نحو الواقعية السوداوية أو النزعة التشاؤمية، حيث تكشف النصوص عن وجوه مأزومة من التجربة الإنسانية.

ومن جهة أخرى، تبرز محاولة لفتح الواقع وكشف طبقاته المضمرة، أو لاستخراج معانٍ جديدة من المتن النصي، تجعل المتلقي في مواجهة مع أسئلته الكبرى

إذا أردنا أن نطبّق ما ذكرناه سابقًا حول طبيعة أعمال يسري الجندي، فيمكن أن نتوقف عند مسلسل "بعد العاصفة"، الذي عُرض عام 1988.

هذا العمل الدرامي مثّل تجسيدًا واضحًا لأسلوب الجندي في الغوص في الرمزية واستحضار أبعاد التاريخ وأسئلته، وإسقاطها على الواقع المعاصر. وقد شارك في بطولته مجموعة كبيرة من النجوم، من أبرزهم: عفاف شعيب ، يوسف شعبان، محمود الجندي، هانم محمد، حمدي أحمد، إبراهيم يسري، توفيق الدقن (ظهر في بعض الحلقات)، أحمد مظهر ، إبراهيم الشامي ، إلى جانب نخبة من الفنانين في الأدوار الثانوية.

المسلسل من تأليف وقصة وسيناريو وحوار: يوسري الجندي، ومن إخراج: المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ.

ويُلاحظ أن هذا العمل لم يقدّم مجرد حكاية درامية تقليدية، بل عمل على تفكيك الواقع وإعادة صياغته عبر أدوات درامية مشحونة بالدلالات، الأمر الذي جعله يميل إلى التعبير عن الأزمات المجتمعية بلغة رمزية وواقعية في الوقت نفسه.

تدور أحداث مسلسل "بعد العاصفة" في قرية بسيطة تقع على أحد الشواطئ الساحلية، حيث يعمل معظم أهلها في صيد الأسماك، بينما تتحكم في مصائرهم مجموعة من كبار التجار الذين يحتكرون المهنة ويتلاعبون بالأسعار.

أبرز هؤلاء التجار: يوسف شعبان (يمثله  زناتي)

سلامة (جسّده الفنان حمدي أحمد)

أما توفيق الدقن، فقد مثّل رمزًا لتاريخ المهنة، إذ جسّد شخصية التاجر القديم الذي كانت له هيمنة كبرى في الماضي، لكن الزمن تجاوزه، ليتحوّل النفوذ تدريجيًا إلى تجار جدد أكثر جشعًا واستغلالًا.

ومن خلال هذه الصراعات، يسلّط المسلسل الضوء على قضية الاحتكار والجشع التجاري، وما يترتب عليها من معاناة للفقراء الذين يعتمدون على البحر كمصدر رزق وحيد

يطرح مسلسل "بعد العاصفة" قضية أساسية تتمثل في مقاومة الظلم والاحتكار، ومحاولة صيادي القرية تشكيل جبهة موحّدة للدفاع عن حقوقهم في مواجهة جشع كبار التجار.

يظهر في الأحداث دور إبراهيم يسري الذي جسّد شخصية الفتى المتعلم، العائد من المدينة محمّلًا بالخبرات والمعارف الحديثة. فقد مثّل هذا الشاب الأمل في وعي جديد، يسعى إلى إرشاد الصيادين وتوجيههم نحو أساليب منظمة للدفاع عن مصالحهم.

إلى جانب ذلك، تتجسد شخصية عفاف شعيب  (بنت المعلم حديدي ) في خط درامي يوازي هذا التوجه، حيث يُظهر المسلسل من خلاله الصراع النفسي والاجتماعي للجيل الجديد الذي يحاول الانتقال من حالة الخضوع إلى المقاومة الفعّالة.

غير أن هذه المحاولات لم تكن سهلة، فقد واجهت الصيادين مؤامرات وخططًا دنيئة من أصحاب النفوذ، ممثلين في شخصيتي زناتي وسلامة، اللذين سعيا بكل الوسائل إلى إجهاض أي محاولة جماعية لتغيي…

مع تطور أحداث مسلسل "بعد العاصفة"، يتصاعد الصدام بين الصيادين من جهة، وكبار التجار من جهة أخرى، ليخرج الصراع إلى العلن داخل القرية. وفي خضم هذه المواجهات، تتعرض شخصيةعفاف شعيب (التي مثّلت رمزًا للمقاومة داخل العمل) إلى مؤامرة خسيسة تمسّ شرفها وكرامتها، الأمر الذي يضطرها إلى مغادرة قريتها والرحيل إلى القاهرة.

 

وهنا يظهر البعد المأساوي في النص: فالشخصية التي ضحّت من أجل الناس ووقفت بجوارهم، كانت هي ذاتها التي دفعت الثمن غاليًا، بل إن من ساعدتهم كانوا سببًا مباشرًا في سقوطها أو نفيها من القرية. هذه المفارقة الدرامية تكشف عن إشكالية كبرى في رؤية يسري الجندي: أن الجماهير كثيرًا ما تتخلى عمّن يناضل باسمها، أو قد تنجرف وراء مصالحها الآنية دون وعي أو ثبات على المبدأ.

رحلة عفاف إلى القاهرة تمثل رحلة تحوّل: فهي تنتقل من امرأة فقيرة معدمة تدافع عن الحقوق، إلى شخصية أقوى وأكثر نضجًا، تعود محمّلة بطاقة جديدة ورغبة في الانتقام أو استرداد حقها. لكن هذا التحول لا يخلو من إشكالية؛ إذ يضعها في مواجهة السؤال الأخلاقي: هل تنتصر للمبدأ أم تنزلق إلى منطق القوة والانتقام؟

ومن خلال هذه الحبكة، يطرح العمل قضية محورية:

أين يقف الناس في صراع المبادئ؟

هل يظلون أوفياء لمن يدافع عنهم، أم يميلون مع الكفة الراجحة ومن يدفع أكثر؟

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)