نجيب محفوظ كاتب استثنائي من حيث البناء الفني والقدرة على التقاط التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر، غير أنّ مسيرته تكشف عن تموضعه في ما يمكن تسميته بـ"المساحات الآمنة"، إذ نادراً ما واجه القضايا الحدّية مواجهة مباشرة، بل لجأ إلى الرمز أو الشخصيات الوسيطة للتعبير عن المواقف الحساسة، وهو ما يفسّر استمراره الطويل في الكتابة وسط تحولات سياسية عاصفة، ويجعل عطاؤه، على الرغم من مكانته العالمية وجائزة نوبل التي حصل عليها، مجالاً مشروعاً للمراجعة النقدية التي ترى أن شهرته الواسعة لا تُلغي محدودية جرأته مقارنة بكتّاب أكثر صدامية وارتباطاً بالمواقف المصيرية.مثل صنع الله إبراهيم في هذا الصدد.
كما إن نجيب محفوظ، على الرغم من
انخراطه العميق في تصوير التحولات السياسية والاجتماعية في مصر، ظل صوته إزاء
القضايا العربية الكبرى – وفي مقدمتها القضية الفلسطينية – صوتًا باهتًا أو غير
مباشر؛ فالمتلقي لا يعثر على موقف صريح أو حاسم، بل يلتقط إشارات عابرة بين السطور
أو من خلف النوافذ الرمزية للنصوص، وكأن الكاتب اختار أن يظل في موقع المراقب أكثر
من كونه طرفًا في الصراع، وهو ما جعل حضوره في هذا السياق مثار جدل بين من يرى في
هذا الحذر "حكمة فنية" تصون العمل من المباشرة التقريرية، وبين من يراه
افتقادًا للجرأة في مواجهة قضية مركزية ظلّت تمتحن وعي المثقف العربي عبر عقود.
يمكن أن نلاحظ أنّ محفوظ في بعض
مراحله كتب نصوصًا تحمل دلالات مباشرة وواضحة لا تخطئها العين، مثل أولاد حارتنا
التي فجّرت جدلاً واسعًا بسبب رمزيتها الدينية المكثفة، حتى بدا وكأنه خرج مؤقتًا
من "المساحة الآمنة" التي اعتاد أن يتحرك داخلها. ومع ذلك، لا ينبغي أن
يُفهم أي نقد لمسيرته الأدبية بوصفه انتقاصًا من شخصه أو سلوكه، فهذه قضية مختلفة،
إذ يظل محفوظ إنسانًا له خياراته الخاصة، بينما النقد هنا ينصبّ على إنتاجه الفني
ورؤيته الفكرية، وعلى الحدود التي رسمها لنفسه في التعبير عن قضايا مصيرية. وهكذا
يصبح التفريق بين "المبدع" و"الإنسان" خطوة أساسية لفهم قيمة
محفوظ الأدبية دون الوقوع في فخ الشخصنة أو التبجيل المطلق.
ولذلك فيمكننا القول إن نجيب محفوظ،
في جانب من مسيرته، مارس ما يمكن أن نسمّيه بـ"الكتابة الخطأ المقصودة"
أو الكتابة المحسوبة التي تُراعي توازنات معيّنة بغية الوصول إلى موقع أدبي
وجماهيري مرموق، وربما كان من نتائجها تتويجه بجائزة نوبل. هذا الحذر ظهر في قدرته
على التحرك بمرونة بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية: فهو قريب من اليسار
حينًا، ومن الليبراليين حينًا آخر، ومن الإسلاميين أو المحافظين في لحظات أخرى،
دون أن يقطع تمامًا مع أيّ اتجاه أو ينتمي إليه بوضوح. هذه الاستراتيجية جعلته
يحافظ على صورة الكاتب "الوطني الجامع" الذي لا يُحسب على فصيل دون آخر،
لكنها في الوقت نفسه تطرح سؤالًا حول حدود التزامه الفكري، وما إذا كانت هذه
المرونة انعكاسًا لوعي عميق بتعقيدات الواقع المصري، أم أنها شكل من أشكال
المراوغة التي أبقت كتاباته في دائرة "المساحات الآمنة" بعيدًا عن الموقف
الصدامي المباشر.
ف " ابحث بنفسك. نجيب محفوظ قبل
أن يتولي رئاسة هيئة السينما كان يعمل بطريقة مشابهة. هذا لا يعني أنك خالٍ من
الموهبة، ولكن يجب أن تتبع هذا النهج حتي لا تثير التوتر في الوسط الأدبي
والمجتمع."([1])
لقد أثارت المرحلة الفرعونية أو
التاريخية في مسيرة نجيب محفوظ كثيرًا من الملاحظات النقدية، إذ يرى بعض الدارسين
أنّ أعماله في هذا السياق اتسمت بالسطحية أحيانًا أو بالمباشرة التعليمية التي لا
ترقى إلى المستوى الفني العميق الذي بلغه لاحقًا في المرحلة الواقعية. فقد بدا
محفوظ وكأنه يوظّف التاريخ الفرعوني كقناع رمزي لإسقاطات على الحاضر، من غير أن
يمنح تلك الشخصيات والأحداث حياة فنية متكاملة، وهو ما جعل هذه النصوص أقرب إلى
"تمارين أولية" في الكتابة الروائية منها إلى إبداع ناضج. ومع ذلك، لا
يمكن إغفال أن هذه التجربة شكّلت مختبرًا أساسيًا ساعد محفوظ على بلورة تقنياته
السردية، وفتحت الطريق أمامه نحو الواقعية الاجتماعية والسياسية التي رسّخت مكانته
فيما بعد
وفي جانب
التجديد ف " البعض كانوا يرون أن التجديد يجب أن يأتي فقط من خلال نجيب
محفوظ، رغم أن نجيب محفوظ كان كاتبًا مبدعًا، لكنه لم يكن الوحيد القادر علي
التجديد. بالنسبة لي، كنت أتعامل مع الأمر ببساطة شديدة، وبدأت في تكوين مجموعات
مسرحية شبيهة بالمجموعات الأدبية. في المنصورة، علي سبيل المثال، قام صديقنا فتحي
جهازي بإنشاء مجموعة مسرحية مشابهة، وهكذا استمرت المحاولات لخلق تيارات جديدة في
الأدب والمسرح([2])
ولذلك "أريد
أن أشير أيضًا إلي مقال كتبه أحد الشباب عن "اعترافات نجيب محفوظ" لجمال
الغيطاني، حيث اعتبرها مسرحيات تاريخية ضعيفة. شكرًا لك، عم نجيب." ([3])
وأيضًا "
حتي الأديب الكبير نجيب محفوظ تأثر أو اقتبس بعض الأفكار، مستشهدًا بإحدي روايات
نجيب محفوظ. عند ذكر اسم نجيب محفوظ، ثارت الدنيا ولم تهدأ." ([4])
علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا: نجيب محفوظ كاتب عظيم، ولكن هل هو الأعظم حقًا؟
طه حسين مفكر رائع، لكنه لم يكن كاتبًا استثنائيًا. نحن بحاجة إلي مراجعة تاريخنا
بصدق، وعلينا التوقف عن نسبة كل الإنجازات لأنفسنا فقط، دون الاعتراف بدور
الآخرين. ([5])

