القراءة العابرة للنصوص ، ومعالجة القضايا وفق مستويات متعددة ، محمد أبو موسى نموذجًًا

0




 يمثّل الدرس البياني معلماً بارزاً في تكوين العقل النقدي والإبداعي لدى الإنسان، وذلك لأنه يقوم على معطيات متعدّدة في تناول النص وقراءته وتحليله. ومن البداية لا بدّ من الإشارة إلى نقطة مهمّة عند التعامل مع النص، وهي الأُنساق المتعدّدة التي ينفتح عليها. فأول هذه الأنساق هو النص الشعري، الذي يُعدّ المادة الأولية أو الأساس الذي تتفرّع عنه مختلف القضايا المرتبطة به .

 الشعر هو المادة الأولية والأساس الذي انطلقت منه مختلف العلوم العربية؛ فمنه استُنبطت القواعد النحوية والصرفية، وبه تأسّست البلاغة والعَروض، كما عُدَّ ميزانًا يُرجع إليه في تقويم شتى القضايا اللغوية والأدبية. فهو الأصل الذي استندت إليه العلوم اللغوية والبيانية في نشأتها وتطورها.

وفق هذا التأسيس، استطاع علماء هذه الفنون أن يوضّحوا القضايا التي تندرج تحتها مباحث البلاغة والنحو والبيان والنقد. ويأتي في مقدّمة هؤلاء عبد القاهر الجرجاني، الذي يُعدّ أحد أبرز المؤسّسين في هذا الميدان، ولا سيّما في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة. فقد كان بحقّ من أعظم المعالم الفكرية التي أسّست للنظرية البلاغية والنقدية العربية، وترك بصمة واضحة جعلته يُعدّ المعلّم الأوّل ـ أو على الأقل الثاني بعد الأوائل ـ في تقعيد هذه القضايا.

القضية الجديرة بالاهتمام هنا هي قضية استنطاق النصوص، لا مجرّد حفظها واستظهارها. فالمقصود باستنطاق النصوص هو استخراج ما تنطوي عليه من قضايا ومكنونات وأسرار، تكشفها القراءات المتجددة والمتنوعة. وهذه الأسرار والمعطيات تختلف باختلاف الأنساق التي يتعامل بها المبدع مع النص، وبحسب عمق قدرته على النفاذ إلى دلالاته. وهذا ما فعله عبد القاهر الجرجاني وغيره من أعلام البلاغة والنقد القدامى، كالجاحظ وغيرهم؛ إذ لم يكن الأمر عندهم مجرّد ترتيب للقواعد، أو الوقوف عند حدود الحفظ والشواهد، وإنما النظر إلى النصوص باعتبارها كيانات حيّة تمتلك طاقات معرفية لا تنفد، إذا ما أُحسن قراءتها وتأويلها.

ولذلك تمكّن علماء التراث من أن يضعوا لنا مناهج نقدية وبلاغية متميّزة وفريدة، ما زلنا نعتمد عليها في قراءة النصوص، واستظهارها، واستخراج ما تنطوي عليه من قضايا بلاغية وسمات أسلوبية رفيعة. وفي العصر الحديث، نهض بعض العلماء بإحياء هذا التراث وإبرازه، وفي مقدّمتهم الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى ـ حفظه الله ـ الذي أعاد إلى الأذهان ذكر هؤلاء الأعلام من خلال قراءته الواعية المتجذّرة لنصوصهم. فقد انطلق في مقارباته من رؤى منفتحة على مجالات متعدّدة، متوقّفًا عند قضايا أساسية تخدم النص وتساعد على تحليله ومعالجته قراءةً عميقة متبصّرة.

الدكتور محمد أبو موسى ـ لمن لا يعرفه ـ واحد من علمائنا الأجلاء وأساتذتنا البارعين في البلاغة، ويُعدّ بحقّ شيخ البلاغيين المعاصرين. وقد قدّم عبر مسيرته العلمية ثراءً معرفيًا فريدًا في دراسته لكتب التراث، حيث جمع بين الأصالة والمعاصرة، وربط القضايا البلاغية بانفتاح على آفاق متعدّدة في استنطاق النصوص وربطها بالواقع. ولم يقف عند حدود القراءة الجامدة، بل منح المتلقي دفعات بيانية وبلاغية مؤثّرة تساعد على إدراك روح النصوص وفهم أبعادها.

وما نتناوله هنا إنما هو إشارة إلى بعض جهوده في قراءة أحد دروس كتاب عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز، حيث يبيّن لنا كيف فكّك الدكتور أبو موسى هذه النصوص والشواهد، وكيف أعاد توظيفها في ضوء الواقع المعاصر، مستنطقًا إياها من جديد لإبراز عطاءاتها المتجددة

------------

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى

في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف

(الأحد: 29 ربيع الأول 1447هـ = 21 من سبتمبر 2025م)

• عَملُ صاحب البيان في بيانه هو تجويدُ صُور المعاني وتحسينُ صُور المعاني. 

• لا بُدَّ أن نَفهمَ شيئًا مهمًّا جدًّا غائبًا عنا؛ هو أن المُعلِّمَ الأولَ لعلماء البلاغة علمَ البلاغة هو الشِّعر، وأن المُعلِّمَ الأولَ للنُّحاة علمَ النحو هو الشِّعر، وأن العربَ بدأوا أول ما بدأوا وليس أمامهم عِلمٌ إلا الشِّعر؛ فاستخرجوا منه علمَ البلاغة، واستخرجوا منه علمَ النحو، واستخرجوا منه علمَ الصَّرف، وعلمَ اللغة، وعلمَ التفسير.. إلخ. 

• خُذْ مِن عِلم الشِّعر ما استطعتَ؛ لأنه هو الذي يُزكِّي فيك علمَ البلاغة، وعلمَ النحو، وعلمَ التفسير. 

• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر، في الفقرة رقم 572: «ذِكْرُ ما أنت ترى فيه في كلِّ واحدٍ من البيتين صنعةً وتصويرًا وأستاذيةً على الجُملة»، قال شيخُنا: أعجبتني كلمة «أستاذية»؛ لأن الأستاذية تَعني إبداع شيء جديد في الباب الذي أنت فيه، ومصطلحُ «الأستاذية» نحن أفرغناه بخَيابَتِنا وهَيافَتِنا من مضمونه؛ فالأستاذُ في البلاغة هو الذي يُنتج من البلاغة بلاغةً، ولولاه ما أَنتجت البلاغةُ هذه البلاغةَ، والأستاذُ في النحو هو الذي يُنتج من النحو نحوًا. 

• الأساتذةُ في العلوم هم الذين يُنتجون علمًا مِن علومهم، فإذا لم تُنتج مِن علمك علمًا فلا يجوز أن تكون أستاذًا، ولو سُمِّيتَ «أستاذًا» وأنت لم تُنتج مِن علمك علمًا كنتَ كذَّابًا ومُدلِّسًا؛ لأن كلمة «أستاذ» للمُنتج مِن العلم علمًا. 

• إذا حَفِظتَ البلاغةَ فكأنك لم تفعل شيئًا، تكون قد وَعَيْتَ كأنك كتابٌ، ولستَ أكثرَ من ذلك، وإنما تكون شيئًا إذا كان تحصيلُك لعلم البلاغة مُنتجًا ولو سطورًا، لا بُدَّ أن يكون هناك كلامٌ لا يُنسَبُ لأحدٍ إلا إليك. 

• تعليقًا على قول «لَبيد»:

وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا .. إِنَّ صِدْقَ النَّفْسِ يُزْرِي بِالأَمَلْ

قال شيخُنا: هذا البيتُ مِن أعظم الشِّعر، وهو في شِعر «لَبيد» دَلَّني على شيء؛ هو أن «لَبيدًا» وإن لم يكنْ من الطبقة الأولى فإنك قد تَجِدُ له شِعرًا ليس في شِعر الطبقة الأولى؛ لأن «وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا» ليس في كلام امرئ القيس ما يُقارِبه، وليس في كلام النَّابغة ولا زُهير ولا الأعشى ما يُقارِبه. 

• قولُ «لَبيد»: «وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا» خِبرةٌ بالنَّفْس الإنسانية عجيبةٌ جدًّا، وأن النَّفْس يكون عندها أملٌ حين تَكْذِبُها، تَضِيقُ بك الدُّنيا فتقول لها: «إن شاء الله ستَنْفَرِج»، وهي إن شاء الله لن تَنْفَرِج؛ فكَذِبِي على نفسي يُعطيها أملًا؛ فـ«لَبيد» يقول لي: اكذبْ على نفسِك حتى لا تَموتَ نَفسُك. 

• تعليقًا على قول نافع بن لَقِيط:

وَإِذَا صَدَقْتَ النَّفْسَ لَمْ تَتْرُكْ لَهَا .. أَمَلًا وَيَأْمُلُ مَا اشْتَهَى الْمَكْذُوبُ

قال شيخُنا: الحقيقةُ لا تَتركُ في النَّفْس أملًا، والإنسانُ يَبقى عنده أملٌ ما دام مَكذوبًا ومَضْحُوكًا عليه، فكأن الأملَ الحقيقةُ تُلْغِيه إلغاءً كاملًا، والكَذِبُ يَفتح له بابَ الحياة. 

• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «وقولُ رَجُلٍ من الخوارج أُتِيَ به الحَجَّاجَ في جماعةٍ مِن أصحاب قَطَريٍّ فقَتَلهم، ومَنَّ عليه لِيَدٍ كانت عنده، وعاد إلى قَطَريٍّ فقال له قَطَريٌّ: عَاوِدْ قِتالَ عدوِّ الله الحَجَّاج»، قال شيخُنا: «الحَجَّاجُ» قُلْ فيه ما شئتَ، لكنَّه رَجلٌ لم يَنْسَ الجَميل؛ مَنَّ على هذا الأسير الخارجيِّ لِيَدٍ كانت لهذا الأسير عند «الحَجَّاج»، ثم قُلْ في الخَارجِيِّ ما شئتَ، لكنْ لا تَنْسَ أن هذا الخارجيَّ فيه فضيلةٌ نفسيةٌ عاليةٌ جدًّا؛ لأن «الحَجَّاج» لمَّا مَنَّ عليه ورَجَع إلى «قَطَريٍّ» أبى عليه طلبَه مُعاودةَ قِتال «الحَجَّاج»، وقال شِعرًا مِن أعظم ما يُقال. 

• تعليقًا على قَوْل «قَطَريٍّ» لـ«الخارجيِّ» الذي مَنَّ عليه «الحَجَّاج»: «عَاوِدْ قِتالَ عَدوِّ الله الحَجَّاج»، قال شيخُنا: الغريبُ أنك تَجِدُ أهلَ الضَّلالة يتكلَّمون كلامَ أهل التقوى. يا أخي أنا والله لا أعرف مَنْ هو عَدوُّ الله: أنتم الذين قَتلتُم «عَلِيًّا» أم «الحَجَّاج»؟ وإن كان «الحَجَّاج» قَتَل «الحُسين».. أنتم قَتلتُم «عَلِيًّا» و«الحَجَّاج» قَتل ابنَ عَلِي؛ فأنا أبرأ إلى الله منكما، ولا أكفِّر منكما أحدًا، وإنما أدعُ أمرَكما إلى الله. 

• الفِرَقُ الضَّالةُ كنتُ أرى أن مِنهم ناسًا فيهم خيرٌ جليلٌ جدًّا جدًّا، ولكنَّ عواملَ اجتماعيةً وعواملَ علاقاتٍ وقَراباتٍ وأحوالًا صَنعتْ منهم هذه الصِّناعة؛ لأن الأبياتَ الثلاثةَ التي قالها الخَارجِيُّ تَجعلُ له عندي مقامًا، وتَجعلُ لإنسانيته مقامًا، وتَجعلُ لرُوحه الإنسانية مقامًا، وهذا شيءٌ في التاريخ مُذهِل، وهو أن تَجِدَ أهلَ الضَّلالة بعضُهم فيه خير، وتتعجَّب وتقول: يا ربِّي، كيف كان هذا الخيرُ يَعيش في هذه النَّفْس مع هذا الضَّلال.

• قَتلْنا الشِّعرَ حين وقفنا به عند موضع الشَّاهد، وحَرَمْنا أنفسَنا مِن فَيضٍ عميمٍ من المعاني الرَّائعة. 

• تعلَّموا المعانيَ الإنسانيةَ العاليةَ من الشِّعر. تعلَّموا الفطرةَ الإنسانيةَ العاليةَ من الشِّعر. 

• إذا جَرَيْتَ مِن الشِّعر وراء الشَّاهد فلن تَنفعَ بشيء، ستُربِّي جيلًا يَجري وراء الشَّاهد، ويكون عندنا «هايف» ربَّى «هايفين»، ولن تُحمَى البلادُ ولا الدِّيارُ بـ«هايف» يُربِّي «هايفين»، وإنما تُحْمَى البلادُ والعبادُ والدِّيارُ برجالٍ ربَّاهم رجالٌ.. هذا أو الطوفان. 

• إمَّا أن نُربِّيَ جيلًا يحمي الأرضَ وإلا أخذَتْها أبناءُ القِرَدة. 

• إنْ لم أُربِّ في داري رجلًا يَحمي داري صارت داري ملكًا لأبناء القِرَدة، وليس هناك إلَّا هذا؛ فالمسألةُ ليست تَرَفًا، وإنما المسألة ضرورة حياة؛ لأن عدوَّنا ليس فيه دِينٌ ولا إنسانية، وكَذِبٌ أنهم أهلُ التَّوراة. 

• رحمك الله يا أبا العلاء رحمةً واسعةً حين قلتَ:

خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ .. أَرْضِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الأجْسَادِ

فما دام أَديمُ أرضِي من أجساد آبائي فيومَ أن أتركَ أرضي لا حارسَ لها فقد وَضعتُ تُرابَ آبائي تحت حذاء أبناء القِرَدة.. هذا شيءٌ غير معقول، والسُّكوتُ عنه مصيبة، وعدمُ بناء الأجيال التي تحمي الدِّيار مصيبة. 

• لُغة العلماء فيها علمٌ ليس أقلَّ جلالةً من العِلم الذي يتحدَّثون فيه. 

• العالِمُ وهو يتكلَّم في العلم تَجِدُ في لُغتِه علمًا ليس أقلَّ مِن عِلمه. 

• نحن نقرأ ونحن تائهون، ليس في ذهننا القراءةُ التي تَصنع منَّا الإنسانَ الأفضل، والأرضُ الأفضلُ هي التي يَعيش عليها الإنسانُ الأفضل، والأرضُ البائسةُ الجَدْبةُ التي أحلَّها قومُها دارَ البَوَار هي التي يعيش عليها الإنسانُ التَّافِه الذي لا قيمةَ له، الإنسانُ المَرعُوب الخائف. 

• المستبِّدُ يُسيء إلى التُّراب أكثرَ ممَّا يُسيء إلى الإنسان؛ لأنه سيجعل الإنسانَ الذي يعيش على هذه الأرض مَرعُوبًا خائفًا لا قيمةَ له؛ فيصير التُّرابُ نفسُه لا قيمةَ له؛ لأن قيمة التُّراب بقيمة القَدَم التي تمشي على التُّراب، فإذا أنت قَهرتَ هذه القَدَم فقد قَهرتَ التُّرابَ الذي هو عَظْمُ آبائك. 

• أشيعوا الثقافةَ العاليةَ التي تَصنعُ الإنسانَ الأفضل يَتوارَ الإنسانُ غيرُ الأفضل من حياة الناس. 

• الحياةُ لا تتغيَّر بالمظاهرات، وإنما تتغيَّر بالعِلم الصَّانع للإنسان الأفضل؛ لأن وجودَ الإنسان الأفضل يُخْجِلُ غيرَ الأفضل مِن أن يتحدَّث. 

• تعليقًا على قول أبي نُواس: «فلئنْ كان سَبقَ فما أسأتُ الاتِّباع»، قال شيخُنا: لاحظْ أن عبد القاهر حين يَستشهِدُ بكلمة أبي نُواس بأن التَّابعَ المُحْسِنَ لِمَن اتَّبع هو صانعٌ في المعاني فإنما يَستشهِدُ بما يُستشهَدُ به. 

• قُلْ في أبي نُواسٍ ما شئتَ، إلا أنَّك لا بُدَّ أن تَعترف بأنه مِن أعلمِ النَّاس بالبيان. 

• الخطأُ الذي فينا أنني إذا خالفتُ إنسانًا هَدَمْتُ صوابَه، وهذه قديمةٌ حذَّرَنا منها عليُّ بن عبد العزيز الجُرجاني حين حذَّر أعداءَ أبي الطيِّب منها فقال لهم: اعترفوا بفَضْلِه حتى يَسمعَ الناسُ كلامَكم في عَيْبِه. 

• عبدُ القاهر لا يُعلِّمني البلاغةَ، عبدُ القاهر يُعلِّمني تحليلَ البيان وتَذوُّقَه، فإذا عَمِيتَ أنت عن عِلم تذوُّق البيان فليس هذا ذَنْبَ عبد القاهر، هذا ذَنْبُك أنت. 

• تعليقًا على تحليل الإمام عبد القاهر صُورتَيْ معنًى لـ«النَّابغة» و«أبي نواس»، قال شيخُنا: أنت الآنَ مع شاعرَيْن مِن أكرم شعرائنا، ومع مُتذوِّقٍ مِن أكرم علمائنا، أنت مع ثلاثة: مع النَّابغة وأبي نُواس وعبد القاهر؛ فإنْ نِمْتَ فقد اخترتَ أن تكون تافهًا؛ لأن الثلاثةَ مَادُّونَ أيديَهم إليك لكي يَنهضوا بك، ولكنَّك أبَيْتَ إلا أن تكونَ لا قيمةَ لك. 

• عِلمُ العلماء وكُتبُ العلماء كأنها رافعاتٌ تَرفعُ مكانَنا وأقدارَنا، ولكننا نحن الذين لم نَفْطِنْ إلى ذلك. 

• «النَّابغةُ» مِن أكرم شعراء الجاهلية، و«أبو نُواس» مِن أكرم شعراء بني العبَّاس، و«عبد القاهر» خيرُ مَن تذوَّق البيانَ في هذه الأمَّة بعد «الجاحظ». 

• ممَّا يَدلُّك على أن هذه اللُّغةَ هي فطرةُ الإنسان الأوَّل أن أفضلَ مَن تذوَّقَها اثنان: واحدٌ سُوداني وواحدٌ جُرجاني، وأن الذين تذوَّقُوها وأحسَنُوا الإحساسَ بجمالِها ليسوا مِن أبنائها. 

• وأنا في الفرقة الرَّابعة في كلية اللغة العربية كان يُدرِّس لنا أستاذٌ - رحمه الله رحمةً واسعةً - اسمُه «حامد عبد القادر»؛ كان رجلًا عالِمًا جليلًا جدًّا، كان يُدرِّس لنا اللُّغات السَّامية، وكان يَستشهِد لـ«العِبْرية» بألفية ابن مالك، وحدَّثَنا عن أن المُحْدَثين من العلماء الألمان أجمعوا على أن «العربية» هي اللُّغةُ السَّامية الأمُّ، واختلفوا في أنها الإنسانيةُ الأمُّ. 

• تَعلَّمتُ من العلماء أن أدقَّ ما تَبحثُ عنه هو الاختلافُ في المُتَّفِق أو الاتفاق في المختلِف؛ فإذا كان الكلامُ يكاد يكون واحدًا فاجتهادُك أنت وعَملُك العقليُّ الرائعُ أن تُخرِجَ منه وجوهَ الاختلاف، وإذا كان الكلامُ مختلفًا فعَملُك أنت الرَّائعُ أن تُخرِجَ منه اتفاقًا؛ مثل: «التشبيه البعيد» الذي ذكره عبدُ القاهر، والذي يكون بين طرفين متباعدَيْن جَمَعْتَ بينهما بوَجْه شَبَه. 

• خيرُ العِلم ما تَعلَّمْتُه أنا، لا ما علَّمَنِيه الأستاذُ، خيرُ العلم أن أجتهد أنا مع السُّطور السَّوداء حتى أستخرجَ منها علمًا مضيئًا. 

• تعليقًا على قول أبي العتاهية:

شِيَمٌ فَتَّحَتْ مِنَ الْمَدْحِ مَا قَدْ .. كَانَ مُسْتَغْلِقًا عَلَى الْمُدَّاحِ

قال شيخُنا: صَدِّقْني، المعنى العامُّ لهذا البيت أفضلُ عندي من موضع الشَّاهد؛ لأنه يُحدِّث عن رجالٍ شِيَمُهم، وما فُطِروا عليه، وما جُبِلُوا عليه = هي التي فتحت أبوابَ معاني الشِّعر للشُّعراء، أين هؤلاء الذين علَّموا الناسَ الشِّعرَ وهُم لم يَنطقوا ببيتٍ واحدٍ من الشِّعر، علَّموا الناسَ الشِّعرَ بشِيَمِهم وآدابِهم وأخلاقِهم وأَنَفَتِهم ورُجولِيَّتِهم.

• تربيةُ الأبناء على الشِّيَم ليست صعبةً؛ لأنك حين تُربِّيهم على الشِّيَم فإنما تُربِّيهم على الفِطْرة. 

• حين يَسمعُ ابني منك أنك تَبحثُ له عند الآخرين عن طريقةٍ للتربية سيُوقِنُ أنك لستَ عندك طريقةٌ للتربية، وأنك ليس لك تاريخٌ، وحتى إنْ لم يكنْ لديك تاريخٌ فلديك الفِطرةُ التي هي أصلُ كلِّ تربية؛ فتنبَّهوا أيها الناسُ ولا تَجعلوا أحفادَنا ييأسُون من أنهم أبناءُ الكرام؛ لأن الكرامَ لن يَستورِدوا طرائقَ لتربية أجيالهم. 

• كلُّ مَن يَعملُ لرِفعةِ شأنِ هذه الأمَّة سيَجِدُ يدَ الله ممدودةً له، ولا تَفهمْ مني حين أقول: «خدمة الأمَّة» أنني أطلب منك أن تتركَ عملَك وتتفرَّغَ لرِفْعة الأمَّة، وإنما أقول لك: أحْسِنْ عملَك الذي أنت فيه؛ إن كنتَ صانعًا أحْسِن الصَّنعة، إن كنتَ معلِّمًا أحْسِن التعليم، إن كنت طبيبًا أحْسِن الطبِّ.. أحْسِنْ ما أنت فيه تكون قد خَدَمْتَ هذه الأمَّة.

- راجع ذلك في  تلقَّاه وكتبه: تلميذه د. ياسين عطية





إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)