الأقوال والأفعأل فرع على أصل هو العلم .

0


 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أمّا بعد:

فمن المسلَّم أنَّ الأقوال والأفعال إنما تصدر عن أصلٍ راسخ، وهو العلم، إذ به تتحدد المواقف وتُبنى السلوكيات. وهذه القاعدة تُبرز لنا أن ما يظهر من أقوال الإنسان وأفعاله لا بد أن يكون ثمرة معرفةٍ سابقة، وإدراكٍ حقيقي، إذ لا يصدر القول الرشيد ولا الفعل السديد إلا عن علمٍ صحيحٍ يهدي

: وإذا كانت الأقوال والأفعال صادرة عن أصلها، وهو العلم، فإنها قد تكون صائبة وقد تقع في الخطأ، تبعًا لطبيعة العلم الذي تستند إليه. فهذا العلم قد يتعلّق بأمور تعبديّة، أو سلوكيّة، أو عمليّة، أو بفروع أخرى من الحياة.

ومن ذلك أن العبادات لا تصحّ إلا عن علم؛ فالصلاة مثلًا تحتاج إلى معرفةٍ بأحكام الطهارة أولًا، ثم بأركان الصلاة وشروطها، ثم بما يتبعها من الذكر والآداب، وكذلك سائر العبادات كالصيام والزكاة والحج. وكذلك الشأن في الأخلاق والمعاملات؛ فهي لا تستقيم إلا بالعلم والوعي.

ولذا جاء التوجيه الإلهي واضحًا في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، فابتدأ سبحانه بالعلم قبل القول والعمل، ليكون أساسًا لكل عبادة وسلوك.

 وتأسيسًا على ما سبق، فإن ثمة علمًا قد يكون في ذاته باطلًا أو مزيفًا، وهو ما يُعرف بالعلم الفاسد، الذي يقوم على البدع والمنكرات والمخالفات. ومن هنا جاء التحذير من التلقي عن غير أهله.

وقد رُوي أن رجلًا سأل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أن يأذن له في تعلّم الصرف على يد أبي علي الجبائي المعتزلي  (وكان مشهورًا بالجدل والخصومة)، فقال له الإمام أحمد: "لا". فاستغرب الرجل وقال: "يا إمام، إنما هو صرف"؛ فأجابه الإمام أحمد مبينًا أن صاحب الفكرة إذا كان متشبّعًا بها فإنه لا بد أن يُلحّ في الدعوة إليها، سواء كانت صوابًا أو خطأً.

وفي هذا تنبيهٌ بليغ إلى خطورة التلقي عن أهل الأهواء، إذ إن المعلّم لا يقتصر على نقل فنّ أو علمٍ مجرّد، بل يؤثّر بمنهجه وفكره ومعتقده، ومن هنا كانت العناية البالغة عند السلف في اختيار الشيوخ الذين يُؤخذ عنهم العلم.

إن العلم في عصرنا الحاضر لم يعد مقتصرًا على مجرّد تحصيل المعلومات أو حفظ النصوص والأقوال، إذ أصبح هذا الأمر ميسورًا للقاصي والداني، بل حتى الأجهزة الحديثة تحفظ آلاف الكتب والمؤلفات وتخزّنها بسهولة.

لكن القيمة الحقيقية للعلم تكمن في قدرة الإنسان على معالجة المعرفة وتنقيحها؛ في أن يُحسن النظر في النصوص، ويستطيع أن يفرّق بين الغثّ والسمين، ويُميّز بين الصواب والخطأ، ويستخلص من المعارف ما هو نافع وعملي. فليست الغاية أن يُكدّس المرء المعلومات، وإنما أن يمتلك منهجًا يُمكّنه من التعامل مع هذه المعلومات بوعيٍ ونقدٍ وتمحيص.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)