الحسد كظاهرة إنسانية مركّبة: دراسة تأصيلية في ضوء النصوص الشرعية والسياق الاجتماعي

0


  

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تتناول هذه المقالة قضيةً من القضايا الأخلاقية والفكرية البالغة الأهمية، وهي قضية الحسد، لما تمثّله من أثرٍ عميق في حياة الأفراد والمجتمعات. ويُعدّ الحسد من أقدم الظواهر التي عرفها الإنسان منذ نشأة الخليقة، إذ ارتبط بطبيعة النفس البشرية وما يعتريها من مشاعر التنافس والمقارنة والغيرة.

فقد تجلّى الحسد أول ما تجلّى في قصة إبليس مع آدم عليه السلام، حين حسده إبليس بعدما أمر اللهُ تعالى الملائكةَ بالسجود له تكريمًا وتشريفًا. وقد عبّر إبليس عن حسده وغروره بقوله تعالى:  {أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12].

ومن هنا ظهر هذا المرض الخبيث لأول مرة في الوجود، متجسّدًا في مشاعر الكبر والغيرة والحقد، وهي المشاعر التي كانت منطلقًا لكل صور الحسد اللاحقة في التاريخ الإنساني.

ويمكن القول إنّ تلك اللحظة كانت البدايات التأسيسية لظهور مرض الحسد، ذلك المرض العضال الذي ينطوي على حقدٍ دفينٍ وشعورٍ بعدم الرضا بما قسم الله من نعمٍ ومنازل. ويقوم هذا المرض على رؤيةٍ نفسيةٍ فاسدة تتمثّل في اعتقاد الحاسد أنّ غيره لا يستحق ما ناله من فضلٍ أو مكانة، وأنه هو الأحقّ بذلك الخير، فينشأ في قلبه الغيظ والاعتراض الضمني على حكمة الله وعدله.

وإذا تأملنا المسار التاريخي لهذه الفكرة، وجدنا أنّها تكرّرت بوضوح في قصة ابني آدم عليه السلام، إذ حسد قابيلُ هابيلَ عندما تقبّل الله قربانَ أخيه ولم يتقبّل قربانه. فقاد الحسد قابيل إلى ارتكاب أول جريمةٍ في التاريخ الإنساني حين قتل أخاه، فكانت تلك أول جريمةٍ يولّدها الحسد، وما زال أثرها ممتدًّا في البشرية إلى اليوم.

ولمّا جاء الإسلام، اتخذ موقفًا حاسمًا من ظاهرة الحسد، فبيّن خطرها وحذّر منها تحذيرًا شديدًا، وعدّها من أمراض القلوب المدمّرة التي تفسد العلاقات الإنسانية. وقد جاءت النصوص النبوية لتوضيح أثر الحسد والعين، فقال النبي : «العين تُدخِل الرجل القبر، وتُدخِل الجمل القِدر»، إشارةً إلى شدّة أثر العين وما تسبّبه من أذى جسدي ونفسي. كما قال : «العين حقّ»، ولما رأى أثر العين على أحد الصحابة قال: «من عان هذا؟»، أي: من أصابه بعينه؟

وانطلاقًا من هذا المبدأ، حرص النبي على تربية الصحابة تربيةً قلبيةً صحيحة تُطهّر النفوس من أمراض الحسد والبغضاء، فقرّر قاعدةً أخلاقية عظيمة بقوله تعالى:  {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]،

ليغرس مبدأ الأخوّة الإيمانية التي تُبعد المسلم عن هذه الأمراض القلبية. كما وجّه الإسلام إلى الاستعاذة من الحسد، وإلى كتمان النعم فقال : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».

ولا يتعارض ذلك مع قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، لأن الحديث عن النعمة هنا يكون بقصد الشكر والثناء على الله لا بقصد التفاخر.

والنقطة الجوهرية التي يهدف هذا المقال إلى إبرازها هي أنّ الدافع الحقيقي إلى الحسد غالبًا ما يرتبط بغياب الوازع الديني وضعف الإيمان. فحين يضعف الإيمان في القلوب، يكثر التطلع إلى ما في أيدي الناس، ويقلّ الرضا بما قسم الله تعالى. ويُعدّ هذا الخواء الإيماني من أخطر أسباب الحسد، لأنه يفتح الباب أمام نزعاتٍ ماديةٍ وأنانيةٍ تفقد الإنسان اتزانه الروحي.

غير أنّ التحليل المتكامل يقتضي النظر أيضًا في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للحسد، إذ إنّ غياب العدالة في توزيع الفرص والثروات، واستئثار فئات محددة بخيرات المجتمع، يولّد مشاعرَ من الحقد والسخط قد تتخذ صورة الحسد، لكنها في حقيقتها تعبيرٌ عن خللٍ في العدالة الاجتماعية. ومن ثمّ فإنّ مكافحة الحسد لا تكون بالتوجيه الديني وحده، بل لابد من إصلاحٍ شاملٍ يُعيد التوازن الاجتماعي ويضمن تكافؤ الفرص بين الناس.

وخلاصة القول، أنّ الحسد لا يُعَدّ حسدًا حقيقيًا إلا إذا كان الحاسد ممن أغناهم الله وكفاهم، ثم تطلع إلى ما في أيدي الناس دون حقٍّ، فمثل هذا مريض يحتاج إلى تهذيبٍ إيمانيٍّ ونفسيٍّ. أما الإنسان المحروم أو المظلوم، فإنّ ما يعتريه من ضيقٍ أو غيرةٍ قد يكون نتيجةً طبيعيةً للحرمان، وليس حسدًا بالمعنى الأخلاقي المذموم.

وبناءً على ذلك، فإنّ الحسد ظاهرةٌ معقّدة متعددة الأبعاد، تتداخل فيها العوامل الدينية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يجعلها من أخطر أمراض القلوب والمجتمعات إن لم تُعالَج معالجةً شاملةً تراعي هذه الأبعاد جميعًا.

فالمجتمع لا يتحصّن من الحسد إلا عبر الإيمان العميق والعدالة الاجتماعية والتربية الأخلاقية، التي تبعث في النفوس روح القناعة، وتشيع في الناس الطمأنينة والرضا والسكينة .

 


إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)