في مسائل التغيير السياسي، والتحول
الاجتماعي، والثورات، وسائر قضايا التغيير، لا بدّ من النظر في عددٍ من النقاط
الجوهرية.
إحدى هذه النقاط تتعلق بما يمكن
تسميته بالتغيير المطلق، وهو ذلك التغيير الذي يحققه أصحابه
اعتمادًا على قوة ذاتية خالصة، رغم مقاومة الخصوم وسعيهم إلى إحباطه. ويتميّز هذا
النوع من التغيير بقدرة أصحابه على التحكم في نتائجه تحكمًا كاملًا، إذ يُفرض من
موقع القوة والقدرة على قهر الخصوم أو سحقهم.
وعليه، يمكن القول إن الإجابة عن
السؤال: متى يكون المرء قادرًا على تطبيق مشروعه أو شريعته؟، تكون عندما يمتلك
القدرة الفعلية على فرض إرادته، وعلى حماية النصر الذي حققه من محاولات الانقضاض
عليه. فالقوة هنا ليست مجرد أداة لتحقيق التغيير، بل هي أيضًا الضمانة الأساسية
لاستمراره وصيانته
و يُمكن تصنيف هذا النمط ضمن ما يُعرف
بـ التغيير المطلق، وهو التغيير الذي يتحقق بفضل قوة ذاتية تمكّن أصحابه من فرض
إرادتهم والتحكم في نتائجه. ومن أبرز الأمثلة المعاصرة على هذا النوع ما حققته
حركة طالبان في أفغانستان، إذ استطاعت من خلال إمكاناتها الذاتية إجبار القوات
الأمريكية على الانسحاب، وفرض شروطها التفاوضية والسياسية، مما أتاح لها تثبيت
سلطتها ومواصلة الحكم وفق رؤيتها العقدية ومنظومتها الفكرية الخاصة.
و يصنَّف النمط الثاني من التغيير
السياسي كتغيير تفاوضي يقوم على تبادل المصالح والبراغماتية
بين أطراف النزاع. في هذا الإطار، لا يسعى أي طرف إلى الإقصاء الكامل للآخر، بل
يُفضِّل التوزيع التراتبي للسلطة أو الحصص في إدارة الملفات الحساسة مقابل تنازلات
متبادلة. يتمثّل جوهر هذا النمط في التوصل إلى صيغة مؤسسية أو اتفاقية تنظيمية
تُنقذ المجتمع من حالة الصراع المفتوح عبر تبادل مكاسب يضمن لبعض الأطراف حضورًا
في السلطة، وللبعض الآخر الحفاظ على مصالحه.
ومن الأمثلة التطبيقية التي تطرّق
إليها الخطاب السياسي المعاصر الحالة
السورية بعد عام 2024، حين أعقبت سقوط نظام بشار الأسد مرحلة انتقالية اتسمت
بتشكُّل ترتيبات تفاوضية أدت إلى تقاسم مراكز القرار بين فاعلين مختلفين.
كما يمثل النمط الثالث من التغيير ما
يمكن تسميته بـ التغيير الممنوح أو المفروض من الخارج، وهو ذلك
التحول الذي تُسهم في صياغته قوى أو فاعلون خارج إطار المشهد الداخلي المباشر.
يُدار هذا النوع من التغيير غالبًا
عبر آليات غير مباشرة، إذ تتحكم قوى خارجية في مسار الأحداث من وراء الستار،
مستفيدة من أدوات داخلية (حركات احتجاج، جماعات مدنية، وسائل إعلام) لتوجيه الحراك
الشعبي بما يخدم أجندتها السياسية أو الاستراتيجية.
وفي الظاهر يبدو أن التغيير نابع من
القاعدة الشعبية، غير أن الواقع يشير إلى أن مصادر القرار والتأثير الحقيقية تقع خارج
الحدود الوطنية أو في مراكز نفوذ إقليمية ودولية.
وقد شكّل ما عُرف بـ الربيع العربي
(2011) نموذجًا دالًا على هذا النمط من التغيير، إذ جرى توظيف القوى الجماهيرية في
عدة بلدان لتحقيق أهداف معينة، ثم أُفرغت هذه الثورات من مضمونها بعد عام 2013،
عندما استُعيدت مراكز السيطرة السياسية من قبل قوى أخرى.
وعليه، فإن التغيير الممنوح يظل
تغييرًا هشًّا وغير مستدام، لأن أصحابه الظاهريين لا يمتلكون أدوات حمايته أو ضمان
استمرار نتائجه.
و
يمثل هذا النمط من التغيير ما يمكن تسميته بـ التغيير عبر النخب البديلة،
وهو النمط الذي ينشأ عندما تنجح الجماهير في تحريك الشارع وإسقاط النظام القائم،
لكنها تفتقر إلى القيادة السياسية الواعية أو الرؤية الإستراتيجية لما بعد
التغيير. وفي غياب مشروعٍ بديلٍ واضح، تتدخل قوى داخلية أو خارجية لملء الفراغ السياسي
من خلال وضع قيادات جديدة تتولّى توجيه المرحلة الانتقالية وفقًا لمصالحها الخاصة.
يؤدي هذا النمط عادةً إلى تحويل مسار
الثورات عن أهدافها الأصلية، حيث تُسرق منجزات الحراك الشعبي لصالح نخب سياسية أو
اقتصادية جديدة لم تشارك فعليًّا في صنع التغيير، لكنها تمتلك أدوات التنظيم
والتمويل والعلاقات الخارجية التي تمكّنها من الهيمنة على المشهد. ومن ثمّ، يصبح
التغيير في هذه الحالة شكلًا من أشكال إعادة إنتاج النظام القديم بصيغٍ جديدة، لا
استبداله بنظام مختلف جوهريًّا.
إن غياب الرؤية والبديل المؤسسي يجعل
أي عملية تغيير عرضةً للاختراق أو السطو أو التوظيف السياسي، مما يفقدها أصالتها
وفاعليتها التاريخية.
كما يُعدّ النمط الخامس من أنماط
التغيير السياسي والاجتماعي التغيير الذاتي أو الداخلي، وهو الذي
يصدر من بنية النظام نفسه أو من عناصر فاعلة داخله تسعى إلى إعادة إنتاجه أو إصلاحه
من الداخل. وغالبًا ما يأتي هذا النوع من التحولات استجابةً لضغوط خارجية أو
داخلية، لكنه يُدار من داخل مؤسسات النظام ذاتها، في محاولة لتجديد شرعيته أو
تفادي انهياره الكامل.
ويمتاز هذا النمط بدرجة عالية من
التعقيد والحذر السياسي، إذ قد يبدو في ظاهره إصلاحًا ذاتيًا، لكنه في جوهره
محاولة لإعادة تشكيل النظام بما يضمن استمرار سيطرته مع بعض التعديلات الشكلية أو
البنيوية.
وفي مثل هذه السياقات، يُستحسن
للفاعلين السياسيين المعارضين أو المترددين ألّا يتخذوا مواقف متسرعة أو تصعيدية
قبل اتضاح اتجاه هذا التغيير، لأن مآلاته قد تصب في صالحهم دون تدخّل مباشر، أو قد
تنقلب ضدهم إذا أُسيء تقدير الموقف. ومن ثمّ، فإن إدارة الموقف السياسي بوعي
ومرونة تمثّل عنصرًا حاسمًا في التعامل مع التغييرات الصادرة من داخل المنظومة
الحاكمة.