التحليل النفسي للظواهر السياسية: من قراءة القادة إلى إدارة الصراعات الدولية

0


 

يُعَدّ علم النفس أحد المرتكزات الأساسية في تحليل السياسات الحديثة، إذ يعتمد عليه السياسيون والخبراء والإستراتيجيون في قراءة الظواهر والأحداث وفهم دوافعها العميقة. ويؤدي هذا العلم دورًا محوريًا في تفسير السلوك الإنساني الفردي والجماعي، وفي الكشف عن العوامل النفسية التي تسهم في تشكيل المواقف واتخاذ القرارات.

إنّ قراءة النفس الإنسانية تُعَدّ عملية تهدف إلى استكشاف المكنونات الداخلية للأفراد وفهم الدوافع الكامنة وراء سلوكهم، بما يتيح إمكانية توظيف هذا الفهم في التأثير في الأفراد والجماعات على حد سواء. وتكتسب هذه المقاربة أهمية خاصة في تحليل آليات اتخاذ القرار السياسي، سواء أكان صادراً عن دولة أم مؤسسة أم جماعة أو فرد. وانطلاقًا من هذا الوعي، أولت الدول الغربية اهتمامًا كبيرًا لعلم النفس السياسي، وعدّته فرعًا رئيسًا من فروع علم النفس لما يمتلكه من قدرة على تفسير الظواهر السياسية وتحليلها في ضوء السلوك الإنساني ودوافعه.

وقد أصبح علم النفس في الوقت الراهن متغلغلًا في مختلف مجالات الحياة، حتى باتت أغلب التخصصات العلمية والإنسانية تستفيد من نتائجه بصورة مباشرة أو غير مباشرة. واتسع نطاق الاهتمام ليشمل فروعًا دقيقة مثل علم نفس الحيوان، مما يعكس أهمية دراسة علم النفس النظري والتطبيقي معًا، ولا سيما ما يتصل منه بالسياسة وسلوك الأفراد والجماعات. وتتمثل الوظيفة الأساسية لهذا العلم في تحليل القضايا المرتبطة بالشخصية الإنسانية، كالسمات النفسية والسلوكية، والدوافع التي تؤثر في عملية اتخاذ القرار، وغير ذلك من الجوانب التي يمكن توضيحها من خلال أمثلة تطبيقية.

تُظهر النظريات النفسية الكثيرة التي تناولت الشخصية والسلوك والتوافق الإنساني وتحليل الدوافع مدى أهمية علم النفس في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الأفغانية، أدرك الغرب أن الفكرة الأكثر قدرة على تحريك قطاعات واسعة من المسلمين هي فكرة “الجهاد ضد الشيوعيين” (أي ضد القوات السوفييتية). وقد استُخدمت هذه الفكرة بمهارة لتحقيق أهداف إستراتيجية، كان أبرزها إضعاف المعسكر الشرقي، وذلك عبر استثارة المشاعر الدينية المتعلقة بفكرة الجهاد وتحرير الأرض المسلمة.

وتتجلى أهمية القراءة النفسية أيضًا في تحليل شخصيات القادة وصُنّاع القرار. فالرئيس المصري الراحل أنور السادات، على سبيل المثال، وُصف بضعف أدائه الإعلامي، أي بتأثره البالغ بوسائل الإعلام والرأي العام. وقد استغلّ هنري كيسنجر والدوائر الغربية هذا الجانب في مفاوضات السلام، إذ قرأوا شخصية السادات قراءة دقيقة، وتوصلوا إلى أنه يسعى إلى الزعامة والقيادة وأن يُنظر إليه بوصفه “قائد الأمة”. ومن هذا المنطلق، طرحوا عليه فكرة أن يكون “قائد السلام”، تمامًا كما كان “قائد الحرب”، وهو ما مثّل مدخلًا نفسيًا ناجحًا لتحقيق أهدافهم السياسية.

في سياقٍ موازٍ، عرفت القراءة النفسية دورًا في تحليل مشروع تصورات القوة والشخصية لدى قادة آخرين، ومن ذلك ما برز خلال حرب العراق في تصورات الطرفين عن شخصية صدام حسين. فقد طُرِحت رؤيةٌ تفيد بأن تصوير صدام كقوةٍ كبرى وزعيمٍ لا يُهاب — أي إبراز صورته على أنها تمتلك قدرة عالية على القتال والمواجهة — يمكن استغلالها نفسياً لصنع استجابة معاكسة تُسهِم في توريطه أو استدراجه إلى مواجهات تُفضي إلى إضعافه. وفي صيغة تحليلية، يُستخدم هذا الأسلوب لإثارة شعور الكبرياء والاعتماد على الحلول العسكرية لدى القائد، ما قد يدفعه إلى اتخاذ خطوات محفوفة بالمخاطر تسهل مواجهته أو تحييده لاحقًا. وتُعدّ هذه الاستراتيجيات جزءًا من رصيد أدوات التأثير النفسي والاستراتيجي التي تُوظَّف أحيانًا في الساحة الدولية لسبر مواقف الخصم وتحديد نقاط الضعف التي يمكن استثمارها.

كما تُستثمر قراءة النفوس أحيانًا في إدارة الأزمات وتفتيت البيئات السياسية أو الاجتماعية الصغيرة. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث بعد عام 2011، إذ قامت مراكز الأبحاث الغربية بدراسة معمّقة لملفات الحركات الإسلامية في مصر، بهدف التعرف إلى توجهات كل فصيل ودوافعه الخاصة. وقد جرى بناء على تلك الدراسات تقديم ما يتناسب مع ميول كل جماعة لتوجيه مسار الأحداث والتحكم فيه. فبعض الجماعات كان يُحرّكها المال، وبعضها يسعى إلى السلطة، وأخرى تطمح إلى تحقيق نصر رمزي أو عسكري. واستُخدمت هذه الفروق النفسية والاجتماعية لتفتيت بيئات الدعم وتحجيم تأثيرها، وهو ما انعكس لاحقًا في مسارات الواقع السياسي.

 

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)