النبوءات المتقدّمة والاستشراف المبكر للواقع: دراسة في الميلودراما السوداء"3نهاية العالم ليست غدًا .1983م.

0






يمثل مسلسل "نهاية العالم ليست غدًا" للكاتب الكبير يسري الجندي نبوءة مبكرة لأفكاره التي طالما حاول أن يقدمها في أعماله الدرامية والمسرحية. وقد صدر هذا المسلسل عام 1983، وكان من تأليف يسري الجندي (قصة وسيناريو وحوار) وإخراج علوية زكي، وهو عمل درامي كبير.

شارك في بطولته نخبة من الفنانين، من بينهم: حسن عابدين، وهو ممثل كبير عُرف بأعماله المتميزة، إلى جانب عايدة عبد العزيز، محمود الجندي، حسن مصطفى، فايزة كمال، وآخرين.

هذا المسلسل يقدم مجموعة من الأفكار التي اصطدم بها المجتمع واصطدمت به، وهي قضية تحوّل القيم والمبادئ والمسؤولية إلى سلع خاضعة للبيع والشراء، بل إلى قيم مهمَّشة تُزاح جانبًا لصالح قيم أخرى تقوم على المادية والنفعيّة والمال.

يجسّد هذا البعد الفكري في المسلسل الفنان حسن عابدين من خلال شخصية رياض عبد ربه، أستاذ الفلسفة الذي طالما تغنّى بالقيم والمبادئ، وسعى إلى غرسها في نفوس الأجيال، مؤمنًا برسالتها، ومصرًّا على أن يورّثها لطلابه رغم كل ما يواجهه من تحديات.

على خلاف شخصية محمود الجندي، الذي كان يسعى وراء ثقافة العصر المادي الذي يعيش فيه ويبحث عن الثروة والمكاسب، كما ظهرت شخصية فايزة كمال، التي أطلقوا عليها لقب "سُقراطَة"، إذ مثّلت امتدادًا فكريًا وفلسفيًا لأستاذها رياض عبد ربه (حسن عابدين)والدها . فقد كانت تعكس أفكاره، وتنقل مقولاته، وتستلهم منهجه في الحياة.

وفي المقابل، برزت شخصية عايدة عبد العزيز في دور زوجة رياض عبد ربه، والتي لم تكن تهتم بهذه القضايا الفلسفية والفكرية، ولم تُعرها أي انتباه. ولهذا أطلقوا عليها لقب "زوجة سُقراط"، تشبيهًا لها بزوجة الفيلسوف الأول سقراط، التي لم تكن تكترث بتعاليمه أو برؤاه الفكرية.

وسط هذا الصراع الفكري والاجتماعي، دارت أحداث المسلسل في حارة المناديلي، حيث عاش رياض عبد ربه وأسرته، وعاش معهم الناس في جو مشحون بالتناقضات بين القيم والمادة، بين الفلسفة والواقع المادي.

يرصد رياض عبد ربه هذا التحوّل المريع، ويقتنع بما يطرحه صديقه توفيق الدقن من أفكار حول أن الكائنات الفضائية ستغزوا  العالم، وأن هناك مؤامرة كبرى تهدد الوجود. غير أن الحقيقة التي يكشفها المسلسل هي أن هذه المؤامرة لم تكن غزوًا فضائيًا، بل كانت مؤامرة معنوية، تجسّدت في التآمر على القيم واستبدالها بالرأسمالية المادية التي تزحف على المجتمع.

هذا ما التقطه يسري الجندي مبكرًا في نصه، حين قدّم رؤية نقدية تستشرف المستقبل. ويظهر في الأحداث أيضًا الصحفي عبد الرحمن أبوزهرة ، الذي يقوم بنشر المقالات في الصحف والمجلات، محاولًا أن يوصل صوت توفيق الدقن، ثم من بعده رياض عبد ربه، للتحذير من هذا الخطر الداهم: خطر الرأسمالية المتغوّلة التي تستهدف إقصاء القيم وإضعافها في المجتمع.

وقد نجح الجندي في تقديم هذه الرؤية من خلال قالب درامي واقعي، اتسم بتعدد مستويات التأويل، فكان في ظاهره عملًا اجتماعيًا فكريًا، وفي باطنه قراءة فلسفية عميقة للتحوّلات الاجتماعية والفكرية.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)