قطف ثمار الأحداث

0


 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فإنني أود أن أتناول في هذه المقالة قضية بالغة الأهمية، وهي قضية قطف ثمار الأحداث."

إن قضية قطف ثمار الأحداث، أو ما يمكن تسميته بسرقة جهود الآخرين، تعد من القضايا بالغة الأهمية في الفكر الغربي. ومن هنا تبرز ضرورة التنبيه إلى المقصود بهذا المفهوم، وبيان ما نعنيه بقطف ثمار الأحداث، خاصة وأننا نشهد في واقعنا المعاصر أحداثًا كثيرة تجسد هذه الصورة."

فعلى سبيل المثال، في ميادين الصراع السياسي، أو أي نوع من الصراعات والأحداث، نلحظ وجود فئة تترقب ما يجري من بعيد، متربصة بالمتصارعين، لا تشارك مباشرة في المواجهة، وإنما تنتظر الفرصة لتنقض على نتائج الصراع، أو لتعيد توجيهه بصورة تخدم مصالحها، أو لتحصد ثماره في النهاية. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما نشهده في الصراعات السياسية بين الدول أو الأمم أو الكيانات المختلفة."

ولعلني في هذه المقالة لن أستطرد كثيرًا في الماضي البعيد، وإنما سأكتفي بذكر أمثلة من الماضي القريب. فالأمريكان في الحرب العالمية الثانية كانوا يحاولون الموازنة بين دفتي  الصراع؛ إذ قدّموا الدعم للحلفاء وفي الوقت ذاته دعموا الروس. وقد أشار المفكر نعوم تشومسكي في بعض كتاباته- الدولة الفاشلة-  إلى أن الهدف من هذه السياسة لم يكن الانحياز الكامل لأحد الطرفين، بل منع أي جانب من أن يصبح قويًا بما يشكل خطرًا على الولايات المتحدة. وبهذه الطريقة استطاعوا إضعاف الطرفين معًا، ومن ثم فتحوا لأنفسهم نافذة جديدة للسيطرة والنفوذ والتمدد، لا عبر إسقاط أحدهما لصالح الآخر، بل عبر إنهاك كليهما."

وبالتالي خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية أقوى قوة وأكثر نفوذًا على الساحة الدولية، إذ انتهت الحرب في عام 1945 وقد تمكنت من التمدد في العالم وتعزيز نفوذها. لقد استطاعت أن تقطف ثمار الحرب العالمية الثانية، حين تركت الأطراف المتصارعة ينهك بعضها بعضًا، بينما كانت هي ترسم لنفسها مسارات جديدة للتوسع والهيمنة."

ومن النقاط الجوهرية التي تحدد ملامح هذه المسألة بدقة، أن الغرب في طريقة تفكيره وإدارته للصراعات يعتمد على إستراتيجية إطالة النفس. فهو لا يعمد إلى القضاء المباشر على خصمه، بل يتركه يستنزف طاقته، ويتخبط في مسارات متعددة، حتى ينهك تمامًا. وحين يصل الخصم إلى مرحلة الإنهاك الكامل، يُحاصره بأدوات الصراع ويُضيَّق عليه الخناق، فلا يجد أمامه سوى القبول بتسوية أو مفاوضات لا تعدو أن تكون استسلامًا مقنعًا. وهذه الإستراتيجية تتكرر باستمرار في إدارة الغرب لصراعاته عبر التاريخ."

ولنكن أكثر موضوعية في توضيح هذه المسألة، يمكن أن نذكر مثالًا بارزًا من حرب أكتوبر. فبعد أن حقق الجيش المصري سبقًا مهمًا بعبور القناة وكسر خط بارليف والسيطرة على الميدان، سعى الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية، إلى محو هذا النصر أو سرقة ثماره. فعندها أصدر كيسنجر أوامره بتوسيع الهجوم، وبخاصة بعد طلب الرئيس السادات الدخول في مفاوضات، التقط الأمريكيون نقطة ضعف يمكن استغلالها. فبدأوا يوعزون للإسرائيليين بتكثيف الضربات والهجمات لزيادة الضغط على المصريين والجيوش العربية. وهكذا انتقلت إسرائيل من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم، لتبدأ أول نقطة تحول في مسار الصراع. ثم جاءت المرحلة الثانية من سرقة إنجازات نصر أكتوبر، عبر فرض اتفاقية كامب ديفيد بشروط مجحفة، أسفرت عن إعادة تشكيل المنطقة وتطويعها بما يخدم مصالح إسرائيل ويجعلها القوة المهيمنة."

وكذلك في الصراع الكبير الذي دار على أرض أفغانستان، صُوِّرت المسألة للأمة الإسلامية على أنها معركة بين المسلمين والشيوعيين، في حين كان الأمريكيون يستثمرون هذا الصراع لمصلحتهم، من خلال استغلال الشعوب الإسلامية والدول الداعمة لها في إضعاف عدوهم الأكبر آنذاك: الاتحاد السوفيتي. وقد أُحيطت هذه الحرب بخطاب تعبوي يتحدث عن تحرير الأرض الإسلامية وحماية المقدسات، واستُجلب الدعم والتأييد من كثير من علماء المسلمين، سواء في مصر أو في غيرها من الدول الإسلامية. لكن حين انتهى المسلمون من تحرير أفغانستان وإضعاف القوات السوفيتية بل والانقضاء عليها، لم يُمنحوا ثمرة جهادهم، بل انقض الأمريكيون على المكاسب، وسرقوا النصر ونسبوه لأنفسهم. وهكذا تكررت الصورة ذاتها."

تكرّر هذا السيناريو بصورة واضحة خلال أحداث 2011، حيث انبثقت حركات شعبية ذات مطالب مشروعة، لكن ثمة قوى خارجية استغلت الفوضى لتعزيز مصالحها، عبر إضعاف النخب المحلية أو تسيير بوصلة التحولات لصالح توازنات جيوسياسية محددة. وتجلّى ذلك لاحقًا في 2013، عندما تعرضت بعض التيارات التي قادت التحركات إلى قمع أو استبعاد مباشر، فحُرمت الشعوب من حصاد نضالها

وهذا ما حدث – على سبيل المثال – في السودان وتونس وغيرها من الدول. حيث تُركت الشعوب لتنتفض وتخرج إلى الشوارع، حتى يتمكن الغرب من مراقبة المشهد عن قرب، والتعرّف على حجم القوى الفاعلة واتجاهاتها، مثل قوى الحرية والتغيير في السودان، ومعرفة مصادر قوتها وامتدادها. وبعد أن تتم دراسة هذه القوى دراسة دقيقة، يُعاد التعامل معها بالعداء، إما عبر الانقضاض المباشر عليها، أو من خلال زرع قيادات بديلة تقيّد الحراك الشعبي وتوجّهه إلى مسارين محددين يخدمان مصالح تلك القوى الخارجية، كما وقع في السودان وغيرها."

و كمثال معاصر يُظهر تكرار النمط ذاته، طوفان الأقصى يمثل حالة حيث أطلق الفاعلون الفلسطينيون خطوة مفاجئة أثرت في ميزان القوة. بالرغم من وجود خطط وقيود خارجية وداخلية هدفت إلى إحباط المبادرة أو تضييق خياراتها، استطاعت الفصائل إدارة العملية بآليات جديدة أدت إلى إحداث أثر عسكري واستراتيجي كبير، امتدّت آثاره إلى أبعاد إقليمية. لكن في مسارّ هذا السيناريو التاريخي، تظهر إجراءات ما بعد الفعل: محاولات ترويض النتائج، المماطلة، أو إعادة توجيه المكاسب لصالح قوى أخرى بدلاً من أن تعود حصيلتها كاملة إلى من قاموا بالفعل."

خلاصةً، يجدر التأكيد أن الحركات المقاومة في الأمة — بما فيها الحركات الإسلامية وحركات التحرر الوطني — تُظهر في الميدان شجاعة وصلابة، لكنها غالبًا ما تُحرم من حصاد مكاسبها السياسية والاستراتيجية. ويُمكن عزو هذا النقص في الحصاد إلى استراتيجيات خارجية تهدف إلى اقتناص ثمار الصراع وإعادة توجيه نتائجه لصالح قوى مؤثرة. وهذا ما يتجلى بوضوح في محاولات استيعاب أو تحييد نتائج طوفان الأقصى. لذا، لا يكفي النجاح العسكري أو الشعبي وحده؛ بل لا بد من عمل استراتيجي مستمر لحماية مكاسب المقاومة وتحويلها إلى انتصار دائم. ونسأل الله تعالى أن يحفظ المكاسب ويمنع الأعداء من تحقيق مبتغاهم."

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)