التحليلات السياسية للأعمال الدرامية " مسلسل سوق العصر"

0


تمثل الأعمال الدرامية دلالة رمزية أو غير مباشرة في تناولها لقضايا الواقع وتسليط الضوء عليها. ويمكن أن نطلق على ذلك مصطلح الترميز أو الرمزية، أي محاولة نقل صورة غير مباشرة عن الواقع أو أحداثه. وقد يرتبط هذا الترميز بعصر معين، أو فترة زمنية محددة، أو حركة اجتماعية، أو شخصيات بعينها، أو أحداث مخصوصة.

ويُعَدّ هذا الجانب ضرورياً في السينما، إذ إن تقديم الفكرة بشكل مباشر يضعفها ويقلل من قيمتها الفنية؛ فالسينما تقوم أساساً على الترميز، أو على محاكاة الواقع ونقله بصورة إبداعية.

ويظهر هذا بوضوح في عمل درامي مهم جداً، هو مسلسل "سوق العصر" الذي عُرض عام 2001.

و مسلسل "سوق العصر" عُرض عام 2001، وهو من تأليف الكاتب الكبير محمد جلال عبد القوي، ومن إخراج هاني إسماعيل. وقد شارك في بطولته نخبة من كبار نجوم الدراما في تلك الفترة، من بينهم: محمود ياسين، أحمد عبد العزيز، غادة عبد الرازق، هادي الجيار، كمال أبو رية...، وغيرهم الكثير من نجوم الصف الأول والثاني، الذين أسهموا في تقديم عمل درامي متميز يُعَدّ من أبرز الأعمال في بدايات الألفية الجديدة.

يحاول الكاتب محمد جلال عبد القوي، من خلال هذا العمل الدرامي وبالتعاون مع المخرج وفريق النجوم المشاركين، أن يقدّم نقداً لحقبة سياسية بعينها، وتحديداً الحقبة الناصرية. ومن المعروف في التاريخ السياسي المصري أنّ كل مرحلة جديدة غالباً ما تنتقد سابقتها، أو تسعى إلى إظهارها بصورة مشوَّهة، أو على الأقل إبراز سلبياتها وعيوبها.

فقد قام جمال عبد الناصر، بعد تولّيه الحكم عقب ثورة يوليو 1952، بتصوير الحقبة الملكية وكشف مساوئها من خلال أعمال درامية وأدبية، إلى جانب ما أُنتج في مجالات أخرى. وعلى النهج ذاته، سعى أنور السادات عند تولّيه الحكم إلى إبراز سلبيات المرحلة الناصرية. ثم جاء حسني مبارك ليتبنى الأسلوب نفسه في النظر إلى عهدَي سابقيه.

ويندرج مسلسل سوق العصر في هذا السياق، إذ يحاول أن يقدّم قراءة نقدية للمرحلة الناصرية، ضمن ما يمكن تسميته بـ"دراما نقد الحقبة السابقة".

حاول محمد جلال عبد القوي أن يوظّف في هذا العمل أسلوب القناع أو التلميح، أو ما يمكن تسميته بـ التورية الفنية، وذلك عبر تقديم شخصيات تبدو غير حقيقية في ظاهرها، لكنها في جوهرها ترمز بوضوح إلى شخصيات واقعية من الحقبة الناصرية. فالمشاهد أو القارئ المدرك للواقع السياسي في تلك الفترة يستطيع بسهولة أن يتعرف على الرموز الحقيقية الكامنة خلف هذه الشخصيات الدرامية.

غير أن الإشكالية الأساسية تكمن في محاولة اختزال خطايا مرحلة كاملة أو حقبة سياسية بأكملها في شخصية فرد واحد، وهو ما يستدعي الوقوف عنده بالنقد والتحليل، وسنحاول تناول هذا الجانب بالتفصيل فيما يأتي.

المعلومات التاريخية التي استقاها محمد جلال عبد القوي، أو أوردها في المسلسل، تظل بحاجة إلى مراجعة وتصحيح، إذ إن الأعمال الدرامية وإن كانت تستند إلى أحداث تاريخية، إلا أنها كثيرًا ما تُقدَّم برؤية فنية قد تحمل بعض المغالطات.

فالثورة التي وقعت عام 1952، والتي صُوّرت في العمل وكأنها قامت ضد الاستعمار البريطاني وضد الملك والنظام الملكي برمّته، تُظهرها بعض المصادر التاريخية بوجه مختلف؛ إذ يشير عدد من المؤرخين – ومنهم مايلز كوبلاند – إلى أنّ الضباط الأحرار لم يكونوا سوى أداة جرى توظيفها بشكل غير مباشر، وأنّ الهدف كان إزاحة الملكية تمهيدًا لإقامة مرحلة جديدة بعد الاستعمار المباشر. هذه الرؤية لم يتناولها عبد القوي في المسلسل، ولم يوضح خلفياتها السياسية.

أما النقطة الثانية، فتتمثل في محاولة تحميل خطايا نظام عبد الناصر بأكمله لشخصية واحدة، هي شخصية صلاح نصر الممثَّلة  في حلمي عسكر.

إنَّ تحميل خطايا نظام كامل على شخص واحد يُعدّ نوعًا من الهروب من المسؤولية، إذ إننا أمام نظام بكامله يتحمّل تبعات تلك الأفعال والسياسات. فالإخفاق في حرب اليمن، وهزيمة يونيو 1967، والاستبداد السياسي، وقمع الحريات، وإضعاف مؤسسات الدولة وإهدار مواردها، كل ذلك يُسأل عنه جميع من كانوا في موقع الحكم أو السلطة، وليس شخصًا بعينه.

إنّ الفساد الأخلاقي والسياسي الذي نُسب إلى صلاح نصر لم يكن حكرًا عليه وحده، بل كان جزءًا من منظومة أوسع، جرت وقائعها على مرأى ومسمع من القيادات السياسية، ولم يكن بعيدًا عنهم أو بمعزل عن سياقهم. ومن ثَمَّ، فإنَّ الإشارة إلى هذه النقطة تظل ضرورية لفهم طبيعة المرحلة ومسؤولية النظام بكامله عن ممارساته، لا اختزالها في شخص واحد.

حاول محمد جلال عبد القوي أن يصوّر الصراع الدرامي في المسلسل باعتباره مواجهة بين شخصيتين: شخصية حلمي عسكر (التي جسّدها محمود ياسين) ممثلاً للشر والفساد، في مقابل شخصية الشاب (أحمد عبد العزيز) التي تسعى إلى مقاومة الفساد والوقوف في وجهه عبر عدة محاور وقضايا. وقد أراد من خلال ذلك أن يقدّم ثنائية واضحة بين الخير والشر، تنتهي بانتصار الخير في نهاية المطاف.

غير أنّ هذا التصوير يحتاج إلى إعادة نظر؛ إذ إنّ مجموعة الضباط الأحرار عام 1952 برمّتها كانت تتحمّل المسؤولية، ولم يكن الفساد مقتصراً على شخص واحد مثل حلمي عسكر أو صلاح نصر. فجميع القيادات في تلك المرحلة، بما في ذلك عبد الناصر نفسه، شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في ممارسات مشابهة، سواء عبر قضايا سياسية كبرى أو أحداث شخصية فرعية (مثل قضية برلنتي عبد الحميد وغيرها).

وعليه، فإنّ اختزال الأمر في صراع ثنائي بين الخير والشر، وتحميل شخصية بعينها وزر مرحلة كاملة، يعدّ معالجة غير دقيقة ولا تعكس حقيقة المسؤولية الجماعية للنظام.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)