في البداية، يقتضي تناول هذه المسألة
تحليل عدد من الجوانب والقضايا ذات الصلة، وذلك بهدف التوصل إلى نتائج دقيقة
وموضوعية، تستند إلى أسس علمية راسخة وتحليلات منهجية سليمة."
تُعَدّ القضية الفلسطينية، بما تتضمنه
من أبعاد متصلة بالمسجد الأقصى والأراضي المحتلة، من القضايا الجوهرية التي ما
زالت قائمة منذ ما يقارب قرنًا من الزمن. وأول ما ينبغي التأكيد عليه أن هذه
القضية ليست مجرد قضية عربية أو مطلبًا لشعب يسعى إلى تحرير أرضه فحسب، كما
يُروَّج أحيانًا، وإنما هي قضية عقائدية تمسّ وجدان كل مسلم يشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدًا رسول الله. ومن هنا تنبع خطورتها ومكانتها الخاصة في الوعي
الإسلامي
إن هذه النقطة الأولى تُعدّ الأساس
الذي تُبنى عليه بقية القضايا المتصلة بفلسطين والأراضي المقدسة، فهي قضية إسلامية
بالدرجة الأولى، تلتزم بها الأمة الإسلامية جمعاء. وإذا انطلقنا من هذا الأصل، فإن
من الواجب النظر في القضايا الأخرى التي طُرحت على هامشها، مثل محاولة اختزالها في
مجرد قضية مقاومة للاحتلال، أو حصرها في إطار قومي عربي، أو تصويرها كقضية سلام
وتسويات سياسية. غير أن هذه الطروحات، على اختلافها، قد شوّهت جوهر القضية وحادت
بها عن مسارها الحقيقي، مما أفقدها كثيرًا من وضوحها وأهميتها الجوهرية."
ثانيًا، يتجلى هذا
البُعد بوضوح في طابع الصراع مع اليهود/الصهاينة؛ إذ لا يمكن فهم الموقف دون دراسة
الطريقة الفكرية التي يتبنّونها. فالعقل الصهيوني، وفق قراءات عدة، يقوم على منطق
الاستيلاء التدريجي—استحواذ قطعةً قطعة—عندما يجد في المحيط ضعفًا أو تردداً
يتقدّم إلى الأمام، وهو ما تجلّى عمليًا عبر سياسة الاستيطان والتوسع في الأراضي
الفلسطينية. لمواجهة ذلك نحتاج إلى فهم مرجعياتهم الفكرية وتأثيراتها (من مبادئ
قومية، دينية، أو سياسية)، ثم التفكير في آليات تحجيم
هذا الخصم أو مواجهته
فكريًا واستراتيجيًا، و بفهم بنيته العقلية وأساليب عمله لكشف منطلقاته الحقيقية
ومقارعة سياساته القائمة على التوسع والسيطرة."
النقطة الثالثة
تتمثل في أن طبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني هي طبيعة صفرية، أي لا تقبل
التسويات أو الحلول الوسط. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَلَا
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا»
[البقرة: 217]، حيث يتضح أن الهدف يتجاوز السيطرة على الأرض والمقدسات إلى محاولة
سلخ المسلمين عن دينهم وعقيدتهم. وقد أكد القرآن هذا المعنى في مواضع أخرى، مثل
قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً»
[النساء: 89]، وقوله تعالى: «رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ» [الحجر: 2]. ومن ثمّ، فإن الصراع ليس سياسيًا أو قوميًّا فحسب، بل هو
في جوهره صراع عقائدي يقوم على ثنائية الإيمان والكفر، وهو ما يفرض علينا إدراك
نتائجه وما يترتب عليه من مواقف عملية وفكرية."
تُكمِنُ النقطة الرابعة في فهم طبيعة الصراع طابعًا صفريًّا ووجوديًّا
يمتدّ عبر أجيال. ويُستند في ذلك إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تبيّن أن الصراع
ليس مجرد نزاعٍ سياسيّ أو إقليميّ عابر، بل يمتدُّ إلى محاولة المسّ بالعقيدة
والهوية. فقد ورد في الحديث أن الصراع قد يستمرُّ حتى يَهتف الحجر والشجر — مع
استثناء شجرٍ معينٍ ذُكر بكونه من شجر اليهود — الغرقد ، وهو تصوير نبوي يدلّ، وفق قراءات منفتحة، على
امتداد المواجهة عبر الزمن ووجود محطاتٍ فاصلةٍ لا تعني بالضرورة حسمًا نهائيًا.
وبناءً على هذا الفهم، لا ينبغي لأي مرحلةٍ من مراحل المواجهة أن تؤدّي إلى
الاستسلام أو التراخي؛ فكلّ مرحلةٍ تحوي دلالاتٍ واستنتاجاتٍ وقد تتطلب مواقف
واستراتيجيات مختلفة للحفاظ على الثبات وعدم التفريط في المبادئ الأساسية."
وتتمثل النقطة التالية في أنّ طبيعة
الصراع وطريقة إدارة المواجهة لدى الجانب المعادي — وخصوصًا في إطار المشروع
الصهيوني — تتميز بنهج تفاوضي انتقائي: فالتفاوض يصل لدرجة الجدية فقط حينما
يواجهون ضغطًا شعبيًا شديدًا أو هزيمة محققة أو خطرًا وجوديًا يهدد استمرارهم. في
غير هذه الحالات، غالبًا ما تُستخدم عملية التفاوض كآلية لاستثمار مكاسب ميدانية
أو شرعنة انتصارات تحققت بالفعل، أو لشراء وقت واستنزاف الخصم. لذلك، فإن
المبادرات السلمية أو الاتفاقيات التي تُطرح من جانبهم قد تكوّن إطارًا تكتيكيًا
لإعادة تشكيل الخطاب العقائدي، أو لتمكين مصالح صهيونية محددة، بدلاً من أن تكون
تعبيرًا عن تغيير جوهري في الموقف أو التنازل عن أهداف التوسع."
كما تتمثل النقطة التالية في أن
التفاوض لدى اليهود والصهاينة، بوصفهم جزءًا من منظومة أوسع من القوى المعادية، لا
يُطرح غالبًا إلا عند مواجهة هزيمة فعلية أو خسارة محققة تجعل سبل النصر مسدودة
أمامهم. في هذه الحالات يلجأون إلى التفاوض، لكنهم يفعلون ذلك بمراوغة وخداع، وهو
ما يعكس تاريخًا متجذرًا في أساليب المراوغة والمماطلة. كما أن طبيعة إدارتهم للحرب
تقوم على إنهاك الخصم واستنزاف قدراته المادية والعسكرية، حتى إذا ما ضعفت أوراقه
التفاوضية وأصبح في موقع العجز، دفعوه إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض، الأمر
الذي يجعل التفاوض في هذه الحالة أقرب إلى الاستسلام. وقد تجسّد هذا النمط، بحسب
بعض القراءات، في اتفاقيات مثل كامب ديفيد وأوسلو ومؤتمرات جنيف التي سُمّيت بخطط
السلام، لكنها عمليًا كانت امتدادًا لمعادلة الإخضاع وإعادة تشكيل ميزان القوى بما
يخدم المصالح الصهيونية."
وتأسيسًا على ماسبق فإننا نقول : إذا
أردنا تفكيك بنية العقل الصهيوني وأساليب إدارته للصراع، فلا بد أولًا من أن نقرّ
بأن المطالبة بنزع سلاح المقاومة أو التسليم به هي مطالبة غير واقعية وتمثل
إنكارًا لطبيعة المواجهة القائمة. فالخصم، وفق هذا الرأي، لا يلتزم بالعقود ولا
بتحالفات أخلاقية ثابتة، ويستخدم التفاوض والتسويات تكتيكًا عند الضيق أو الانكسار
لا أداةً للتنازل عن أهدافه الاستراتيجية. لذلك، لا يمكن للمقاوم الشريف أن يترك بندقيته أو يفرّط بأداته الأساسية — فخيارنا،
كما علمتنا السيرة النبوية والتجارب التاريخية، يتراوح بين النصر أو الشهادة،
والله تعالى هو مصدر النصر. ومن هنا ينبع رفض المساس بسلاح المقاومة أو نزع
قدراتها الميدانية كشرط لأي تسوية؛ ذلك أن مثل هذا النزع يقتل القدرة على الصمود
ويقضي على جوهر الكفاح الذي ورثناه عن أجدادنا